شرح خطبة الشقشقية للإمام علي علية السلام
كتبت من محاضرة صوتية ألقاها سماحة الشيخ محمد كاظم الخاقاني قبل سنين في الكويت
قال رسول اللَّه (ص) : ( اعرفوا الحقّ تعرفوا أهله) ([1][1][1]) وقال علي (ع): ( الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) ([2][2][2]).
يمرّ علي (ع) وهو قاصد البصرة بما فيها من صحابة رسول اللَّه (ص) فيأتي إليه السائل فيسأله: أمقاتل أنت عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير وهما من حواريي رسول اللَّه (ص) ، وأم المؤمنين هي شعار الإسلام ترفع معالم الدين؟
فكيف يريد علي (ع) أن يقاتل صحابة رسول اللَّه (ص) ، وأن يقاتل أم المؤمنين عائشة؟! ثم ازداد بعد ذلك الاستغراب من الناس والمسلمين على أنّ علياً (ع) كيف يريد أن يقاتل حفظة القرآن الذين يحيون الليل بتلاوة القرآن، والذين عرفهم الناس بالإيمان والتقوى؟ فأخذ الناس يتردّدون وأخذ الناس يلوم بعضها بعضاً: كيف نقف مع رجلٍ واحد ونخالف صحابة رسول اللَّه (ص) ، ونخالف أمّهات المؤمنين، ونخالف حفظة القرآن؟ ما قامت وما مدّت هذه السيوف إلاّ لتقاتل مشركي قريش، أو الفرس، أو الخارجين على الدين، فكيف يمكن، وكيف تساعدنا سواعدنا أن نرفع سيوفنا على حفظة القرآن وحواري رسول اللَّه (ص) ؟
هكذا تقع الشبه في النفوس حينما تكون الموازين والمقاييس هي الأعداد، أو الرجال، أو النساء، لا سنن اللَّه وقيم الشرع المبين!
أقول: لمّا تركنا نواميس الشرع، وتركنا قواعد الإسلام، وأخذنا نقيس الشرع بأفعال الرجال والنساء، وأردنا من الشرع أن يطبق نفسه على أحوال الرجال، ويكون تابعاً لأغراضهم، جئنا نتكلّم بمثل هذه الكلمات، ولمّا أردنا أن يأتي الشرع ويتصاغر أمام شهوات الرجال والنساء جئنا نتكلّم بمثل هذه المتاهات، وقد أبعد اللَّه تعالى ابن نوح من نوح (ع) ، وبرأ نوحاً من أفعال ابنه، وقد أبعد آباء الأنبياء من الأنبياء؛ بناء على الأبوة، أو العمومة، فأبعد العم عن ابن أخيه، وقد كرّم زوجة فرعون، فلمّا أخذنا نخلط في المقاييس والموازين تاركين المنهج والشريعة نـتّبع أقوال الرجال وأفعالهم جاء الزمن ومرّت بنا القرون يتلو بعضها بعضاً، ونحن لا نتكلّم، ولا نتمكن أن نقول بمقالة الحق؛ لأنّ هذا يقول: تعدّى على الصحابة، وذاك يقول: تعدّى على السلف، وهذا يقول: تعدّى على أمّهات المؤمنين، واليوم هذا يقول: قد تعدّى على حوزة، أو تعدّى على عالم وفاضل، أو فقيه.
فالمقياس لا يقوم بمجرّد حوزة، أو بفعل رجل، أو عالم، أو مجتهد، أو فقيه، فهناك مقاييس شرع شرّعها رسول اللَّه (ص) ، من التزم بها ــ ولو كان من الصين ــ فهو منّا، ونقدّره، ومن لم يلتزم بنواميس الشرع، ولايأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، يرى التخبّط والتلاعب بالمقاييس، فلا يحافظ ولا يلحظ إلاّ نفسه، أو مرجعيته وتقليده وشؤونه الخاصة، فهو لا يفكّر إلاّ بجمع زكاة وخمس، كائناً من كان، فإنّا لا نرتبط به ولا نقدّره؛ لأنّ العلم وحده لا قيمة لـه ما لم يقرن بالتقوى وخلوص العمل، فالمقياس كتاب اللَّه وسنة نبيه (ص) ، فمن سار عليهما كان على هدى، ومن لم يسر عليهما فهو على ضلالة، وباطل، ومن المؤسف أن يُرى كتمان الحق منهجاً، والسكوت عن ظلم الظالمين منهاجاً، والعمل بالموازنة لإرضاء جميع الأطراف سبيلاً !
ولعل قائلاً يقول: كيف يقول الرسول (ص) : ( اعرفوا الحق تعرفوا
أهله) ([3][3][3]) ، والحق صعب لا يمكن معرفته، ولا يستطيع عامة المجتمع معرفة الحق والوصول إليه إلاّ بفعل الرجال، وهم العلماء، أو بما يسمع من أقوالهم؟
فنقول: لو كان الحق صعباً ممتنعاً لما قال اللَّه تعالى في كتابه المجيد: { والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ اللَّه لمع المحسنين} ([4][4][4]) .
فإذن: الحجة تامة، والبلاغ تام، وليس لأحدٍ منّا أن يتوهّم بأنه سوف يتخلّص يوم القيامة من السؤال، فهذه أوهام حكمنا بها لأنفسنا، وخداعٌ نخادع به ضمائرنا، ونحن نعلم بأمّ عقلنا وفطرتنا على: أنّ الحق واضح، ولا تقليد إلاّ في فروع الفروع من الأحكام الشرعية فقط، كبعض أحكام الصلاة، أو الصوم.
لقد أصبحنا نتبع القضايا بالصداقات والمجاملات. قال الإمام
الحسين (ع): ( الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون) ([5][5][5]) .
هذا واقع مجتمعنا، فلا نكون من الذين إذا جمعهم اللَّه يوم القيامة كانوا تحت راية إمام المنقلبين على الأعقاب، فهناك راية سترفع يوم القيامة للذين انقلبوا على أعقابهم، ولا يدخل تحت هذه الراية فقط مَن كان في عهد رسول اللَّه (ص) وانقلب بعد وفاته، بل سوف يدخل كلّ ساكت عن الحق، وكلّ متلبّس بالتقية كذباً وبطلاناً، فيجتمعون تحت تلك الراية، فلا يتصوّر المتصوّر أنّ اللَّه امتحن البشرية واختبرهم فقط بعد وفاة
الرسول (ص) ، فظهرت ضمائر المجتمع، ثم اختبرهم في عهد علي (ع) فظهرت بواطنهم أيضاً، ثم اختبرهم في عهد الحسن أيضاً فظهرت ضمائرهم، وبدا أنهم من المنقلبين على الأعقاب بمراتب، فهذا انقلب على عقبه عملاً، وأنكر ولايةً كبرى، ونحن أقررنا بها لفظاً، وسرنا بمسيرة المنقلبين على الأعقاب عملاً، إلاّ النوادر، فجاء زمن الإمام الحسين (ع) وقد خرج في اليوم الثامن تاركاً جمع الحجيج والمسلمين، والمسلمون من كافة أقطار العالم مجتمعون هناك، فأقام عليهم الحجّة، ثم انتقل الخبر بواسطة الحُجّاج إلى جميع الأقطار الإسلامية، فانكشفت ضمائر المجتمع: أنّ الدين لعقٌ على الألسن، حتى جاء دور الإمام الصادق (ع) ، فجاءت الوفود من فارس، فقدمت عليه (ع) تقول له: يا ابن رسول اللَّه، لمَ أنت سكتّ عن حقك، ولك فقط في خراسان مائة وعشرون ألف مقاتل، وقام جدّك بأقلّ من ذلك، فلمَ ساكت أنت عن حقّك، وعن حق الشريعة الإسلامية يتلاعب بها بنو أمية، أو بنو العبّاس؟ فخاطب القوم قائلاً: تعتقدون أنّ لي في خراسان مائة وعشرين ألف مقاتل؟ قالوا: نعم، قال: إذن لابدّ أن تكون بيعة وعهد بيني وبينكم، وأنتم رؤساء القوم، فصعد على السطح وبعث غلامه ينادي الواحد تلو الآخر، وكان كلّما صعد واحدٌ منهم ذبح شاة، فكان الدم يسيل من الميزاب، وصعد الأول، فلمّا صعد الثاني كان متردّداً شاكّاً، والثالث تثاقل في الصعود، والرابع صاح بأعلى صوته: يا جعفر، جئت بنا إلى هنا لتقتلنا؟([6][6][6]) فنسي الإمامة والمعتقدات، وأنزل الإمامة منزلة إنسانٍ جزّار قاتلٍ للنفوس .
فهكذا إذا ابتلينا بواقع الأمر، أمّا إطلاق كلمات ( ياليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) في الرخاء، في غرفة تشتغل فيها المكيّفات، والأمن فيها حاصل، يتكلّمها المتكلّم وكأنّه يتكلّم أوهاماً وخيالاً، فكلمات تصاغ بصيغة لطيفة لا تعكس واقعاً، ولا تجسّد حقيقة.
فهذه كلّها مقدّمات، وإن شاء اللَّه سندخل في بحث الخطبة، ولكن إتماماً للحجّة على نفسي أوّلاً، وعلى غيري بعد ذلك، أقول: قال علي (ع) لكميل بن زياد([7][7][7]) ــ في كلام طويل مرّ عليكم كراراً وتكراراً ــ : ( الناس ثلاثة: فعالم ربّاني) يعني عالم يسير بخطى التربية الإلهية في كلّ أموره، عقيدة وعملاً، وإلاّ فالعلماء كثيرون، ( ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق) إلى أن قال: ( بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً) .
جئت بهذا الكلام من الإمام علي (ع) حتى لا يتصوّر متصوّر أنّ الحوزات العلمية، أو البلاد الإسلامية الشيعية، خالية من رجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لكنّهم الأقلون ( لئلاّ تبطل حجج اللَّه وبيّناته) فلابدّ من رجال، شاءت الناس أو أبت، نسلاً بعد نسل، وقرناً بعد قرن، يجعلهم اللَّه حجة، يقيم بهم حججه على الخلائق؛ لئلاّ تبطل حجج اللَّه وبـيّناته.
ثم قال (ع) : ( وكم ذا) والكلام هاهنا، وكم ذا: سؤال من الإمام
علي (ع) ، يقول: كم هؤلاء؟ قلائل، نوادر، يعدّون بالأصابع ( وأين أولئك) فهذا كلام من الإمام (ع) يظهر فيه قلّتهم، يعني لا تخدعون بكثرة العمائم والخطباء والشعراء.
ثم يقول: ( أولئك واللَّه الأقلّون عدداً، والأعظمون قدراً) فأولئك هم الأوتاد الذين منع اللَّه بهم السماء أن تقع على الأرض، ( يحفظ اللَّه بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى) .
ثم يقول: ( أولئك خلفاء اللَّه في أرضه، والدعاة إلى دينه) .
ثمّ يتأوّه ويقول: ( آهٍ آه، شوقاً إلى رؤيتهم) فعلي (ع) يشتاق ــ وهو الثقل الأكبر بعد رسول اللَّه (ص) ــ إلى هؤلاء الأوتاد، فهؤلاء لم يصافحوا طاغية، ولم ينافقوا باسم التقية، ولم يسكتوا عن الحق؛ خوفاً من أن تنقطع عنهم سيول الأخماس والزكوات، هؤلاء لم يتسابقوا إلى بعث بعض الجهّال إلى المناطق العالمية بلا اختبار ولا امتحان، لا علماً ولا عملاً، فيشتاق علي (ع) ــ مع جلالة قدره، ومقامه العظيم ــ إلى هؤلاء الأوتاد، إلى هذه النخبة الطاهرة.
اللهمّ، إنك لتعلم أنّه لما جاء الإمام الحسين (ع) ودعى المجتمع الإسلامي المجتمِع في مكّة المكرّمة، وبيّن لهم ما بيّن، وحذّرهم ما حذّرهم من الطغاة والمتلبّسين باسم الدين، فلما لم ينصروا الحق في حينه وأوانه جاءت الطواغيت فاحتلّت مدينة رسول اللَّه (ص) ، فكان الحسين (ع) سدّاً منيعاً أمام كلّ باطل، وهجمة كلّ جبار وطاغ على وجه الأرض، فما نصروه في حينه، فجاءت سيول الجريمة من الطواغيت فضربت مدينة رسول
اللَّه (ص) ، فما حفظوا السدّ ليتترّسوا به أمام الباطل، حتى قُتل واستشهد مع فتية من الأطهار، فجاءت جيوش المكرة بعد ذلك باسم الدين لتحتل مدينة رسول اللَّه (ص) ، فقتل الرجال، وتعدّى الجيش المسمى بالجيش الإسلامي تحت راية ضلال ليستبيح نساء المدينة، فكان الرجل لا يزوّج ابنته إلاّ بهذا الشرط: أنّي لا أضمن لك بكارة، وإذا بالصحابة والمسلمين ــ من بعدما احتلت المدينة التي سكتت عن الحق في حينه ــ يؤتى بهم أذلاّء خاسئين، يُطبع على ظهورهم: عبيد ليزيد وآل أبي سفيان وبني أمية، هكذا هو حكم الساكتين عن الحق.
ثمّ لم تقف الجريمة، ولم يقف العدوان على مدينة رسول اللَّه (ص) حتى اتّسعت الأبعاد، فهوجمت الكعبة، وأحرقت.
أجل، حينما قُتل الحسين (ع) ظنّ الناس أنّه نزاع شخصي بين
الحسين (ع) ويزيد، لكنّهم عرفوا بعد حين أنّه نزاع أُسُسٍ وقيم، نزاع جند الرحمن مع جند الشيطان، فلمّا سقطت راية الحق بلا ناصرٍ ولا معين جاء الباطل ليعمّ كلّ ناحية وقطر حتى وصل إلى مكّة والمدينة، واللَّه يعلم أنّه لما جاء داعية الحق من بعد الثورة في إيران ودعا الناس والعلماء إلى الثبات من أجل الحق تركوه، فما أضرّوه، بل أضرّوا أنفسهم، فأخذهم التيار، وسيأخذهم، وسيندمون على ما فعلوا في الدنيا قبل الآخرة، فقد ناداهم بنداء الحق، وصاح صيحة عظيمة: أيّها الناس، إنّ الانحراف في أوّله سهل، فقفوا لدينكم، ودافعوا عن معتقداتكم، تكلّموا بكلام الحق قبل أن يفوت الأوان، فلم يتكلّم متكلّم، ولم يقل قائل: لماذا هذا الانحراف باسم الدين؟! فالحساب كان في الدنيا قبل الآخرة، والمذلّة في الدنيا قبل الآخرة، ونحن في بدايات الذلّ والهوان.
والآن نأتي إلى الخطبة الشريفة؛ حيث كانت شقشقة، فأردنا أن تبدأ بشقشقة.
لقد كانت هدرة من علي (ع) ، رجل البصيرة والحق، الذي كان يشاهد التلاعب باسم الدين، ويشاهد الذئاب أصبحوا ولاة للمسلمين:
( أما واللَّه) الواو هنا حالية، يعني: أما واللَّه تنبّهوا وتوجهوا، يعني والحال لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، كيف تقمّصها وكيف لبس الخلافة ثوباً؟ فآدم (ع) خليفة للَّه، ونوح (ع) خليفة للَّه، والأنبياء والأوصياء هم خلفاء للَّه على وجه الأرض، فالخليفة مَن كان جامعاً لمظاهر اسم اللَّه، ومَن كان جامعاً لكلّ الأسماء والصفات الإلهية يمثّل اللَّه في الكائنات، فالخليفة هو الاسم الأعظم الفعلي للَّه تعالى، واللَّه تعالى هو الاسم الجامع الذي تدخل تحته جميع الأسماء من رازق، مريد،… كل الأسماء والصفات تدخل تحت اسم اللَّه، فاللَّه في واحديّته، في جمعه للصفات، هو الاسم الأعظم الإلهي، والإنسان الكامل والكلمة التامة والآية الكبرى هي اسم اللَّه الفعلي على وجه الأرض، واللَّه تعالى إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، والإنسان إذا أصبح اسماً للَّه، إذا أصبح الاسم الأعظم الفعلي للَّه، كان إذا قال للشيء كن فيكون، فكيف يتقمّصها زيد وعمرو؟! وهو أخذها بلا شورى، بعد سحق قيم النصوص تحت الأقدام، فقال القائل: إنّه عمل بذلك حفظاً للإسلام ــ لأنّ علياً (ع) حدث السنّ، شاب، فقد تفلت الأمور، والعرب لا ترضى إلاّ بشيخ، فكان هو أكبر القوم، فأخذها وتسارع إليها؛ لأنه دفعته دوافع المحبّة لحفظ شريعة رسول اللَّه (ص) !
فإن كان حقّاً ما يقولون: إنّ مثل هذه التوجيهات تكون سبباً لسحق القيم تحت الأقدام من نصٍّ وشورى، فإن كان حقاً مثل هذا الادعاء، ولم تكن نهمة الرئاسة دفعته لذلك، فلمَ نصّب الثاني أيضاً بلا شورى ولا نصّ؟ فإن كان هناك خوف في بداية رحيل رسول اللَّه (ص) ، فكيف استمرار الخوف إلى زمن الخليفة الثاني؟ وكيف قبلها الثاني، وهو القائل: بيعة أبي بكر كانت فلتة، من أتى بمثلها فاقتلوه؟ فهو أوّل محكوم بالقتل قبل كلّ أحد، فلا نعاتب أحداً، ولا نعجب من قول، وكيف نعاتب غيرنا ونحن ابتلينا بما ابتلي به غيرنا ! لقد كنّا نفخر على الآخرين، لكن اليوم لا فخر ولا زهو بعدما راحت الخروقات للشرع تجري بمرأى ومنظر من العامة والخاصة، ومن السواد الأعظم والعلماء.
أجل ( أما واللَّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة) فالعلم بلا تقوى لا قيمة له، ( ينحدر عنّي السيل) فالسيل ينحدر من المواطن والأماكن العالية، فإنّه أراد أن يقول للمجتمع: إنّ سيل العلم والمعارف والأحكام السماوية الإلهية هي في صدر باب مدينة النبيين، فمن أرادها من غير بابها لا يتمكن أن يصل إليها، فجاء سيل العلم الإلهي على صدر محمّد (ص) لينصبّ على المجتمع البشري من جبله الرفيع، وهو عليٌّ (ع) .
( ولا يرقى إليَّ الطير) فكلّ طائرٍ مهما بلغ في قوّته وعروجه وصعوده لا يتمكن أن يرقى إليّ، فهو (ع) جبلٌ لا كالجبال، جبلٌ لو أراد الطير أن يصعد إليه لما تمكّن من ذلك، لا جبال العقول، ولا جبال العرفان والفقه قادرة على أن ترقى إليه، وهذا هو المعنى الأول، فسيل العلوم اختص به بواسطة رسول اللَّه(ص) ، فهو باب مدينة العلم، ثمّ يقول: ولا يظن، ولا يتوهّم متوهّم أنه يتمكن من أن يرقى إلى هذا الجبل، يعني: كلّ من فهم كلمة فهو فهم قدراً من الإسلام، كلام لا تسمعه العقول، فالناس على اختلاف مراتبها مهما حاولت وتحاول أن تفهم علياً (ع) لا تتمكّن، ولا يشير علي (ع) إلى علماء الأرض وأبناء الدنيا، بل يشير إلى العلماء الربانيين الحقيقيين الصدّيقين، أهل العروج، فيقول: هؤلاء لا يتمكّنون من أن يعرجوا ويصعدوا إلى هذا الجبل، فهو جبلٌ قرينٌ لسيد الكائنات، أين منه العلماء والعرفاء؟ أين منه عمّار ومقداد ومالك وسلمان؟
أمّا أمثالنا من الجهال فلا نتكلّم عن أنفسنا، فإضافة على سيل العلوم، سيل الحقائق، سيل التكوين، خلقهم اللَّه أنواراً، فكانوا بعرشه محدقين، وقد قالت الصدّيقة الكبرى فاطمة سلام الله عليها بالنسبة إلى أبيها رسول اللَّه (ص) : اختاره وانتجبه إذ الخلائق في كتم العدم مصونة، فيشير (ع) في هذه الخطبة إلى قصور الكائنات الذاتي، نزولاً وصعوداً في قوسي الصعود والنزول، إلى أنّ هناك قصوراً في مرتبة التشريع، لا يتمكن أن يرقى إليه المخلصون الصديقون، فضلاً عن القاصرين والمقصّرين، فهو فيضه وجبله المنيع.
والحمد للَّه ربّ العالمين.
[8][1][1]ــ
[9][2][2] ــ روضة الواعظين، الفتال النيسابوري: 31 .
[10][3][3]ــ
[11][4][4]ــ سورة العنكبوت، الآية 69 .
[12][5][5]ــ تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني: 245 .
[13][6][6]ــ
[14][7][7]ــ نهج البلاغة، شرح محمد عبده 4 : 35 ، كلمة رقم 147 ، من كلام لـه ? لكميل بن زياد النخعي .
0 تعليق