منطقة الفراغ التشريعي
التعبير بمنطقة الفراغ التشريعي قد يكون بحسب الظهور البدوي متضمنا لشيء من التسامح أو مؤديا لمفهوم غير مراد لأصحاب النوايا السليمة حيث لا فراغ في نفس الأمر و الواقع لشريعة كانت تبياناً لكل شيء في مواطن الكتاب و السنة و السيرة ، فلم تترك واقعة ولا حادثة إلا بينتها لذوي البصيرة الذين يعيشون أبعاد الرسالة بأبعادها الثلاثة أصلا بحسب الكتاب و بيانا بحسب السنة و تطبيقا بحسب السيرة ليصبح كل حدث صغرى كل لتلك الكبريات التي رسم خطاها المعصومون في غضون حياة أربعة عشر معصوماً من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتى زمن الغيبة للحجة (عج) .
و المراد من الفراغ هي الصلاحيات بما تناسب حياة الأمة بمقتضى الزمان و المكان في مجال تطبيق الشريعة بما يناسب الأولويات العقلية أو الاجتماعية في حياة الفرد و المجتمع و النظام الإسلامي بحسب ما يستوحيه المسلم من سيرة المعصومين لكافة شؤون حياته الفردية و الاجتماعية و نظامه الإسلامي على اختلاف المسؤولية لهذا المسلم في حياة أمته الإسلامية حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : } كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته { .
فمن جملة هذه الصلاحيات تطبيق الكبريات على مصاديقها بتنفيذ الشريعة في مواطن الضرورات و المسلمات و كذلك ما يكون راجحا بحسب الاجتهاد و أهل الخبرة سواء في ذلك الاجتهاد الفقهي أو الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو غيره من محاور الاجتهاد و الاختصاص تحت ظل الشريعة و ضوابط الشورى .
و منها إجراء الأحكام الثانوية من قبل الشورى المختصة بها بعد ثبوتها بأدلتها بالنسبة إلى ذلك الأمر الطارئ في محاور المصالح العامة و الحكومة الإسلامية لا ما يعد من العناوين الثانوية في مجال شؤون الفرد حيث يكون حقا شخصيا أو تكليفا خاصا يميزه الفرد بوجدانه و عقله و مشورته مع الآخرين و بمسؤولياته الباطنية تجاه الحق تعالى و الخلق .
و منها مواطن تزاحم الملاكات ثم العمل طبقا لما يرجحه أهل الخبرة تحت ضوابط الشورى سواء كان التزاحم في ميادين الأمور العقلية العائدة إلى المصالح العامة أو الاجتماعية أو الاقتصادية حيث انه ليس من حق أي أحد بانفراده أن يقرر مصير أمة كما عاشته الأمة الإسلامية طيلة القرون سواء باسم أمير المؤمنين أو ولي الأمر أو الأمير حيث عاشت الأمة استبدادا لا مثيل له حتى في الغابات باسم الله سبحانه و تعالى و رسوله حشد لتلقين الأمة شرعيته وعاظ السلاطين .
و منها مواطن تشخيص الأولويات للأخذ بالراجح منها بعد انصياعها أيضا تحت ضوابط الشورى لأصحاب الخبرة ليكون التنفيذ أيضا بيد الحكومة الإسلامية لأن ولاية الحاكم هي ولاية تنفيذ للشيء و ليست ولاية تبديل و تغيير للأحكام الشرعية ككون البضاعة تمرًا أو سيفاً أو حصيراً في يوم من الأيام و كونها من مستجدات العصر الحديث في يوم آخر بعد كونها مما أحلها الله سبحانه و تعالى .
و الأمة بحاجة ماسة في كافة مجالات الحياة لأصحاب الخبرة على صعيد العلم و العمل حتى يصبح ميدان جولان الحكومة الإسلامية في المواطن النظرية و كذلك في مجال تطبيق الشريعة على الواقع الخارجي مزدهرا بأهل الاختصاص و محفوفا بضوابط الشورى حيث يكون العمل بالشورى راجحا في مواطن الحياة الفردية و لازما في مواطن الحياة الاجتماعية و التخطيط لرسم مصير أمة أو شرح الرسالة الإلهية .
أجل من الضروري أن تقع الأمور بأيدي أهل الخبرة و الأخصائيين ليعمل كل ذي خبرة و اختصاص في مجال عمله من فقه أو اقتصاد أو سياسية أو علم نفس وهكذا، كل ذلك تحت ظل موازين الشريعة بإشراف من قبل شورى الفقهاء لصيانة الأمور و شرعيتها .
فقد حدد الإسلام حدود التصرفات الفردية و الاجتماعية و صلاحيات الحاكم و الحكومة الإسلامية تحت ضوابط الشرع و الشورى و لم يفتح المجال تحت عنوان منطقة الفراغ لهجمة الاستبداد للتلاعب بالقوانين و ضياع حقوق المجتمع و الأقليات بادعاء تشخيص المصلحة ليتلاعب المتلاعبون تحت غطاء التأويل و التفسير بكل أبعاد الرسالة و حياة المجتمع و أوكل مواطن التطبيق لمنهج الشرع بما يناسب الفرد و المجتمع و الحكومة إلى كل بما يناسب المقام بإشراف لسليم العقل و نور العلم حتى و أنه منع الإنسان من التصرف في أمواله الشخصية إذا لم يتزن من حيث البذل و سماه سفيها و جعله تحت سلطان الولاية .
فتطبيق الشريعة في ميادين المسؤوليات العامة و المصالح الاجتماعية بما يكون رسما لمنهج الشرع و تخطيطا لمصير أمة لابد و أن يجري تحت ضوابط الشورى بما يعم تطبيق الشرع بعناوينه الأولية أو الثانوية و كذلك بالنسبة إلى كل ما يعود إلى مواطن الاجتهاد سواء كان اجتهاداً فقهياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعيا أو غير ذلك لأن الاجتهاد حتى و لو كان في مواطن الفقه و الأصول إذا تجاوز حدود الفتوى و التقليد و راح ليرسم شرعا أو يخطط لمصير أمة لابد و أن يكون تحت ضوابط الشورى في كافة ميادينه العلمية و التطبيقية بما يناسب المقام من شورى الفقهاء أو الاقتصاد أو السياسة أو غير ذلك .
و كذلك لابد أن تحدد الصلاحيات للحكومة الإسلامية تحت ضوابط الشورى من أهل الخبرة و الاختصاص فيما تعود إلى تشخيص الأولويات في المصالح العامة و الأخذ بالراجح في مجال التزاحم للملاكات من صراعات في ميادين الأهم و المهم و القبيح و الأقبح و الفاسد و الأفسد حيث لا يكون هناك مخلص من أحدها عند التزاحم .
فيتعين الأهم أو القبيح أو الفاسد في مجال التزاحم في مورد المصالح العامة ليقدَم على ما هو المهم في أو الأقبح أو الأفسد مما يحتاج المقام أيضا إلى ضوابط الشورى لتشخيص هذا الواقع و من كونه أمرا عقليا أو سياسيا أو اقتصاديا و يكون المقام عند العجز عن التشخيص أو عدمه هو التخيير.
و من صلاحيات الحكومة الإسلامية تطبيق مسلمات الشريعة و ضرورياتها تحت إشراف لجان مؤمنة و من أهل الخبرة لتجنب سوء العمل في مواطن التطبيق مما قد يعود على الشريعة ببعض السلبيات لما لحسن التطبيق من أثر بليغ على النفوس و كذا العكس عند سوء العمل في مواطن التطبيق حيث يكون تشويها للشرع .
و من صلاحيات الحكومة الإسلامية أيضا تطبيق الكبريات على صغرياتها تحت ضوابط الشورى و إشراف أهل الخبرة و ذلك لأن الكثير من المصاديق ربما دخلت في ظرف زمني أو مكاني خاص تحت كبرى من الكبريات ثم كانت بمقتضى زمان أو مكان داخلة تحت كبرى ثانية كما تقدم في بعض المقدمات من أنه قد يعد شيء من لباس الشهرة عند عرف أو بحسب ظرف خاص ثم لا يكون كذلك عند عرف آخر أو بحسب ظرف زماني أو مكاني آخر .
و رب بضاعة حرمت بمقتضى زمان لأنها تشترى من المحاربين أو تباع عليهم و إذا انتهى هذا التخاصم فلا موجب لبقاء الحكم على مثل هذه البضاعة المباحة بحسب نفسها و رب أداة كانت مختصة بالقمار لا مورد لاستعمالها في غير ذلك أو تمثال أو مجسم لا مورد له سوى العبادة الباطلة و قد انتهى زمنها و أصبح لهما مواطن استعمال أخر .
و رب شيء كان في زمان لا مالية له فأصبح في زمان آخر ذا مالية لدى العقلاء يعتد بها تبذل بإزائها الأموال و رب عمل كان عبثا بحسب عرف أو زمان أو مكان أصبح عملا عقلائيا في ظرف آخر و لو كان من قبيل جمع الحشرات لأنها أصبحت موردا لاستعمال طبي أو عملي و رب حكم كانت له ضرورة بحسب ظرف قد لا تكون له بحسب ظرف آخر تلك الضرورة و لذا يجب أن تكون مثل هذه الأحكام تعايش واقع الحياة لأنها ليست من قبيل الحكم على الصلاة أو الصوم أو الحج أو الخمر و الميسر و الغيبة .
و كذلك قد تختلف الأحكام بحسب ظروف الاضطرار و العسر و الحرج كما و أن شيئا قد تكون له في ظرف مرجحاته العقلية أو الاجتماعية أو السياسية أو يكون الشيء لهوا و عبثا أو ضررا أو باطلا بالقياس إلى فرد أو ظرف خاص و قد لا يكون كذلك بالقياس إلى فرد أو ظرف معين .
كما و أن الأحكام الثابتة لموضوعاتها قد تختلف باختلاف الأفراد فقد تكون الصلاة واجبة من قيام على فرد و من جلوس على فرد آخر و قد يجب الصوم على فرد و قد لا يكون واجبا أو يكون محرما بالقياس إلى فرد آخر كما و إنه قد يعتقد شخص بتحقيق شرط لشيء و يراه الآخر مفقودا أو يرى تمامية بينة و الآخر لا يراها عادلة ، و مثل هذه المواطن ليست من باب تغيير الأحكام .
و قد اتضح من المقدمات أن الفقيه يكون مرجعا في تشخيص الكبريات في مواطن الأحكام الشرعية و لا عموم لذلك في بقية شؤون الرسالة التي هي رسالة الحياة في كافة جوانبها .
كما و أنه لا خصوصية له في مواطن تشخيص المصاديق و لو في كبريات كانت من اختصاصه إلا أن يكون هو من أهل الخبرة فيها فتكون لخبرته مرجحات الاطمئنان و الوثوق لمن ليس من أهل الخبرة لكن لا شأن لذلك في التقليد حتى لمقلديه .
كما و أنه من اللازم تحديد ميادين البحث الفقهي الكبروي ليمتاز عن مواطن الصغريات ليرجع فيها إلى أهل الخبرة بما يناسب المقام من العرف أو المباني العقلائية أو أهل الاختصاص ككون هذا من مصاديق الخمر أو الربا أو اللهو أو الضرر المحرم .
لكن ربما وقع الخلط فراح المقلد يسأل الفقيه عن الدخان أنه من المفطرات أم لا ؟ في حين أن الكلام كبرويا عن الغبار الغليظ و مصاديقه عرفية غاية ما يمكن أن يدعى فيه أن الفقيه أحد أفراد العرف في ذلك لا لأنه من مواطن التقليد التي يجب فيها رجوع العامي إلى مقلده .
كما و أنه لا بد و أن تحدد ميادين التقليد التي هي في مواطن الأحكام عما هو من الأمور العقائدية التي لا تدخل تحت إطار التقليد و هي المباحث التي تستفاد من علم الكلام و الحكمة أو التفسير و الروايات في مجال العقائد حتى لا تساق الأمة للتقليد حتى في مثل هذه الأمور العقائدية كما هو مشاهد في أغلب المدن .
كما و أنه لا بد من فرز و تمييز بين ما هو من خطى المعصوم الواجب الإتباع و بين ما فعله المسلمون إلا أن تكون سيرة من المتشرعة أهل العلم و التقوى حيث تطمئن النفس بحكايتها خطى من أوجب الله سبحانه و تعالى إتباعهم و إلا فقد أصيبت الأمة بتقديس الرجال على حساب الشرع القويم فضاعت الكثير من معالم الشرع في ظل هذا الخطأ و رب حسن ضيَع ما هو أحسن منه و حق ضيع ما هو أحق منه .
هذا كله إن لم يكن من ماكر جاء بكلمة حق يريد بها باطلا أو كان من جاهل عاش حضارة جاهلية باسم الدين يريد شهود شرع الله سبحانه و تعالى في وجوه الرجال و النساء خلافا لما ما ورد عن الهداة } إن الحق لا يعرف بالرجال اعرفوا الحق تعرفوا أهله {
كما و إن الأمة قد أصيبت من خلال تقديس الرجال بتقديس فهمهم لنصوص الكتاب و السنة ظانة أن ما توصل إليه السلف من فهم أو تطبيق للرسالة في ميادينها المختلفة كان وحيا غير قابل للاجتهاد و النقاش و إن وجدت الأمة نفسها أن الاختلاف في الفهم و التطبيق ساق الكثير من السلف إلى الحروب فضلا عن الشتم أو التكفير لبعضهم البعض الآخر .
أضف إلى ذلك ما حاولت الأمة من غمض الطرف عما تشاهده من العديد من الأخبار المتواترة التي تشير إلى أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ستسير على ما سارت عليه الأمم كاليهود و النصارى شبرا بشبر و ذراعا بذراع و إنهم لو دخلو جحر ضب لدخلت هذه الأمة فيه و لما ورد من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أنه يؤخذ ببعض أصحابه إلى النار فيقول : أصحابي أصحابي فيقال له : ما تدري ما أحدثوا بعدك .
كما و أنه في كثير من الموارد تدخلت أيدي السياسة و السلطة لتفسير و توجيه النصوص فأطلقت أيدي وعاظ السلاطين و منعت من إبداء الرأي بقية علماء و مفكري هذه الأمة و إلا فأين المهاجرون و الأنصار ليصبح أبو هريرة راوية الإسلام في عهد معاوية و هو القائل كما في الصحاح كالبخاري و غيره يتهمني المسلمون بكثرة الأحاديث و الكذب فيها و لماذا تخاف السلطات من كتابة السنة و نشرها و تمنع المسلمين من تدوينها .
أجل يمنعها متقدم لينشرها آخر كمعاوية على أيدي أبي هريرة و أمثاله من مقربي السلطات العايش في كنف نعيمهم و قطر ندى أفضالهم ، فما أذن الحكام في نقله من السنة إلا ما كان يوافق فقهاء السلطة أو لا يعارض آرائهم مما لا دخل له في شؤون حكمهم و أصيبت جراء ذلك الأمة التي عاشت تحت ظل الجبابرة المستبدين باسم أمراء المسلمين أو المؤمنين بالذل و التبعية ليصبح المسلم المثالي من لا يتكلم و لا يسمع و لا يرى .
فراحت الأمة تعيش تحت ظل الجبابرة هذه المأساة و راح الكثير من العلماء يراعون أولياء نعمهم و هم الحكام الذين ملكوا مصادر الحياة المالية و الاجتماعية ليصبحوا موظفين يتقاضون الرواتب منهم و يداهنونهم من أجل العيش على حساب الشرع و الأمة بإخفاء كثير من حقائق رسالة السماء .
و كيف نعجب من مراعاة كثير من العلماء أولياء النعم كالسلطات الذين يملكون مصادر الحياة المالية و الاجتماعية و ها نحن نشاهد أيضا البعض من العلماء ممن تحرر بحسب مسلكه من تبعية الجبابرة راح ليسعى لمرضاة أولياء النعم أيضا حين اختلف أولياء النعم من مذهب لآخر فأصبح ولي النعمة بدلا من الحاكم هم عامة الناس فراح ليكتم الكثير من موازين الحق و يعيش بعقلية العوام لأن بأيديهم أيضا مصادر الحياة كالحق الشرعي و المكانة الاجتماعية .
و إن كان عند التأمل لا يجد الإنسان داعيا للتعجب في المقام لأنها سنة الحياة بإزاء أولياء النعم حكاما كانوا أو من سائر الناس ما لم يحصل التحرر من قيود العبودية للدنيا و المتحررون نوادر من البشر و هم الأقلون الذين اختارهم الله سبحانه و تعالى حججا على خلقه و إلا فالناس عبيد الدنيا و الدين لعق على ألسنتهم يدورونه ما دارت معايشهم كما قال الإمام الحسين عليه السلام إلا من عصم الله ، فإنه ولي التوفيق .
و كيف نعجب من تعيين مصير الأمة على أيدي الفرد باسم أمير المؤمنين و هو ما أذعنت إليه الأمة طيلة القرون تحت أعواد وعاظ السلاطين على حساب الشرع لتعيش هوان التبعية و الذل بعد ما عشنا نحن نفس هذا الواقع و إن تبدلت الأسماء و العناوين حينما أصغت الأمة أيضا لضجيج من ملؤوا مساجد الله سبحانه و تعالى بهتاف الموت لكل من خالف رأي الحاكم في كيفية تدبير دفة الحكم و إن كان المخالف هو جل علماء الطائفة إلا من ندر منهم في هذه الأزمنة الأخيرة كما وقع الأمر بالنسبة لمسألة ولاية الفقيه و ذلك على مرأى و مسمع من الأمة و علمائها و لا أدري أين ذهب مفهوم الاجتهاد و حرية الرأي عند قوم ينزلون إلى الشوارع بهتافات الموت لكل من لم يوافق رأيهم في مسالة الولاية المطلقة و يجعلون الحماس الشعبي لأناس لا يفهمون مفردات الكلمات العلمية مستندا لصحة منطقهم و صواب منهجهم .
و قد صرح بعض الأعلام بأن منطقة الفراغ التشريعي هي المباحات و المندوبات و المكروهات دون الواجبات و المحرمات ، فلولي الأمر أن يتدخل فيها كأن يمنع الأشخاص مثلا عن شرعية الإحياء للأراضي وفقا لمقتضيات الظروف الخاصة و الدليل على ذلك النص القرآني حيث يقول تعالى } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم { بحيث تكون محاور الصلاحيات تعم كل مورد لم يرد فيه نص خاص يدل على حرمته أو وجوبه كالنفقة على الزوجة ، ففي مثل هذه المواطن ليس لولي الأمر التدخل فيها .
فنقول : إن ثبوت هذه الصلاحيات لولي الأمر لا يدل على سريانها بالنسبة إلى الفقيه أو رئيس الحكومة الإسلامية لأن كلامنا في المقام ليس عن صلاحيات أصحاب الولاية المطلقة الذين هم أولى بالناس من أنفسهم لأنهم مظاهر الحق و موازين العدل و إنما الكلام في حدود صلاحيات الفقيه و رئيس الدولة الإسلامية التي يجب أن تحدد بإطار تطبيق الشريعة بالدليل و البرهان تحت ضوابط الشورى من أهل الخبرة و الاختصاص حيث لا صلاحية لفقيه في تقنين أو تقرير مصير أمة أو رسم شريعة بنحو التفرد في الرأي طبقا لاجتهاده الخاص .
نعم ما يكون من أعمالهم عليهم السلام راسما لحكم شرعي بحيث يستفاد منه بنحو الجزم أنه ما كان من شان ولايتهم الخاصة بل جيء به لتطبيق الشريعة في ميادين السنة العملية بعناوينها الأولية أو الثانوية فإنه يكون من الصلاحيات في المقام لولي الأمر شريطة أن يتمشى مع ضوابط الشورى لأهل الخبرة و أما ملاحظة المصالح الاجتماعية بما يناسب الزمان والمكان فهو تحت ضوابط الأولويات بإطارها الشرعي بحدود الشورى أيضا .
وأما الأحكام الشرعية سواء منها الواجبات و المحرمات أو المباحات و المستحبات والمكروهات فهي جميعا ثابتة لموضوعاتها لدخول الصغريات تحت كبرياتها مطلقا بلا أي دليل على التخصيص بولاية الحاكم الشرعي والضرورات تبيح المحظورات في كل المواطن إلا أن يمنع من السريان طروء قاعدة عليا ( حاكمة ولو عقليا ) أو تكون بعض مصاديق الضرورات خارجه عن إطار الكبرى بحسب ظرف زمني أو مكاني كما تقدم بيانه في المقدمات .
فإذن على فرض طرو عنوان ثانوي على ما كان من المباحات كالأرض لمن أحياها لظروف خاصة كعدم اتساع الأراضي وكثرة الناس وتحقق قدرات طائلة لبعض أصحاب القدرات المالية لإحياء الأراضي بنحو يكاد أن يمنع الضعفاء من الإحياء لعدم مقدرتهم و عدم مقدرة الحكومة على مساعدتهم قد يكون سببا لطرو عنوان ثانوي في ميادين المصالح العامة التي لا يمكن العمل بها إلا من خلال ضوابط المشورة من أهل الخبرة و الاختصاص سواء كان المقام يستدعي التشاور مع أصحاب الاختصاص في مجال الاقتصاد أو غير ذلك .
و لا يكفي مجرد دعوى تحقق العناوين الثانوية في ميادين المصالح العامة من قبل الحاكم أو الهيئة الحاكمة ما لم يقرن ذلك بتأييد من قبل اللجان المختصة و ضوابط الشورى و إلا فلو فسح المجال لدعوى ثبوت العناوين الثانوية و تشخيص المصالح بلا تقييدها بضوابط الشورى فسوف لا تبقي معاول أصحاب المصالح ركنا من أركن الشرع إلا و هدمته و لا تبقي معرفيتهم المتأطرة بالمصالح موردا إلا و فسرته و أولته بما يتمشى مع مصالحها الشخصية تحت عناوين مختلفة فضلا عما لو قيل بأن من صلاحياتها التدخل في ميادين الأحكام الأولية من المباح و المكروه و المستحب بإعطائها حكما وجوبيا أو تحريميا .
ولا أظن أنه مع تحقق العدل و التطبيق السليم للشريعة يحدث عنوان ثانوي في مثل إحياء الأراضي التي أراد الله سبحانه و تعالى للتنافس في مجالات الرشد و التنمية و العمران إلا في ظروف نادرة جدا يجب تشخيصها من قبل أهل الخبرة كما تقدم .
فإذا كان العنوان الأولي كالأرض لمن أحياها مانعا من حق الحياة للآخرين كأن كان الأغنياء بقدرات طائلة وكان العجز من قبل الحكومة الإسلامية مانعا من مساعدة الضعفاء لإنعاش الحياة الاقتصادية و التنافس في مجال إحياء الأراضي ففي مثل هذه الظروف النادرة يمكن طرو عنوان ثانوي يعطي الحكومة الإسلامية الصلاحية لمنع الأغنياء من الإحياء للأراضي و لكن فرض كلمة [ يمكن ] لا يكفي لطرو عنوان ثانوي في المقام لرفع اليد عن العنوان الأولي و هو [الأرض لمن أحياها ] ما لم يثبت ذلك بواسطة أهل الخبرة لكي لا يحصل التلاعب من الحكام كما هو المشاهد في أغلب المناطق الإسلامية .
و بالجملة لو أطلقت أيدي الحكام من قبل الشرع تحت عنوان منطقة الفراغ التشريعي و لو في مثل المباحات بأن يجعلوها واجبة أو محرمة بدعوى طرو عنوان ثانوي سوف لا تبقى قاعدة من قواعد الشرع في ميادين المباحات و المندوبات و المكروهات إلا و نسفتها معاول التوجيه و التأويل تحت غطاء تشخيص المصلحة و العناوين الثانوية فضلا عما لو أطلقت أيديهم بلا شورى و بلا حاجة إلى مختصين في الواقع البشري و إرهاصاته تحدد بهم هوية الموضوع و حيثياته كما و أن الابتعاد عن منطقة الفراغ قد يفضي إلى الجمود تحت عنوان المحافظة على الشرع فلذلك لابد من تفاعل مع الواقع حتى لا توسم الشريعة مع سعة انطلاقها بطابع يظهرها قاصرة عن تفسير مستجدات العصر و هجمة التطور .
فالإسلام بحاجة إلى رجال و نساء يعيشون سعة الصدر ، يحتضنون البشرية بأسرها مع المحافظة على مبادئ الإسلام في ظل أبعاد الشريعة الثلاث الكتاب و السنة العملية و العلمية يدافعون عن أسسها الثابتة و تراثها المنهوب الذي شوهته تراكمات التاريخ ، يميزون بين الأسس التي لا تقبل النقاش و بين الاجتهادات التي طرأت في ضمن أربعة عشر قرنا حيث يمكن أن يجري في حق بعضها التعديل و التنظيم أو الاستفسار و التغيير تبعا لاجتهاد و بحث علمي جديد و بالأخص لو كانت البحوث العلمية من أهل الخبرة بنحو مشترك بعيد عن رواسب التقليد باسم الاجتهاد بروح تذعن بكل إقرار بأن ما توصل إليه البشر من لمس روح الشريعة و فهم أبعادها إنما كان نقطة من بحر حتى لا يصاب المسلم بالتوقف عن مسيرة الكمال .
فليس الشك في المنهج الإسلامي و قابلياته لمواكبة الزمن و إنما الشك في ما توصل إليه الكثير من المجتمعات الإسلامية من فهم الشريعة خوفا من أن يكون سوء الفهم ينعكس على نفس الشريعة و يدعوا إلى صياغة أسسها من العدل أو الإحسان بصياغة جافة على أيدي بعض من ينسب نفسه إلى العلم و المعارف الإلهية فلو أريد من العنصر الثابت هي الكبريات المسلمة الشرعية و من المتغير ما يفهمه المجتهدون من الشريعة فيما يعود إلى مواطن الاجتهاد و استنباط الأحكام من أدلتها الظنية و محاور الأصول العملية أو موارد الدلالات غير القطعية و ما هو من موارد تشخيص المصاديق لإدخالها تحت الكبريات فلا مانع من ذلك فإنه لا مشاحة في الإصلاح أو كون المتغير هو ما كان راجحا لتغيّر الحكم تبعا لتغيّر موضوعه .
فإذن ليست هناك من صلاحيات خاصة للدولة تسمى بمنطقة الفراغ سوى تطبيق الشريعة بأبعادها المختلفة في محاور الأحكام الأولية و الثانوية و تشخيص مواطن التزاحم للملاكات و الأولويات .
و قد وقع التلاعب في كثير من مواطن التطبيق و التفسير مع حفظ الإطارات العامة للشريعة و ذلك من خلال التلاعب بالمقاييس .
و الخوف في هذه العصور من التحلل باسم التطور بما قد يوصل إلى التلاعب بالمقاييس تحت عناوين شتى من قبيل دعوى فهم الغايات أو لمس المصالح أو المفاسد و العمل بروح الدين لا بحروفه .
و من جانب عدم التخصص في كثير من مواطن الشريعة على ضوء الكتاب و السنة أفضى بالبعض لتصور فراغ و قصور في الشريعة بمعناه السلبي في حين أنه كان ناشئا من عدم مواكبة المسلمين للشريعة بأبعادها الثلاث و عدم وجود خبراء في كثير من المجالات كالاقتصاد الإسلامي أو علم النفس أو غيره تحت ضوابط الشرع التي قد تكون مهجورة أيضا و إن كان في بعض الموارد حصل فيها بعض التحرك بقدر متابعة و مسايرة الآخرين تحت ضغوط الزمن لكنها لا تفي لرسم الشريعة و دفع شبه القصور أو توهم فراغ تشريعي في المقام .
فلابد أن تحدد صلاحيات الدولة الإسلامية ضمن إطار الشورى في كافة مجالات الحياة تحريكا لروح المسؤولية و القابليات المختلفة لكيلا تذهب الطاقات هدرا أو تتحجم أو تتحجر العقول تحت مطارق الاستبداد أو التقليد .
و إن كان من الملحوظ أن لكل أمة بحسب حضارتها و زمانها و مكانها التفاعل الخاص مع روح الشريعة التي هي الفطرة و الاستسلام إلى الحقيقة ، فلا أظن أن جميع الأمم لو أسلمت لتفاعلت مع الإسلام تفاعلا واحدا ما لم تصل إلى الكمال المطلوب حيث لا يختلف عند ذلك الواقع في أعينها .
فتفاعل العربي الحضري يختلف عن القبلي بأزاء الآباء و الأمهات و حقوق الأبناء و حسن الضيافة و الشجاعة حيث ينظر كل بمنظاره الخاص سعة و ضيقا إلى الشريعة بأبعادها المختلفة كما و أن الغربي المسلم ينظر إليها بمنظار آخر حتى و لو كان كل مسلم يعيش سلامة في دين ، كما و أن التفاعل مع حقيقة واحدة كالصلاة يختلف باختلاف النفوس فقد تكون مسقطة للتكليف فقط كما و أنها قد تكون قربانا و معراجا و عمودا للدين على اختلاف مراتب الإيمان و الخلوص و بعد المعرفة .
و الذي يجب أن يلحظ في المقام الخوف من وقوع التلاعب في مواطن التطبيق و التفسير مع حفظ المتون و الإطارات تدليسا و خداعا للشعوب و ذلك من خلال استغلال الجهل بالشريعة أو عدم الإحساس بالمسؤولية تجاه التخطي للقوانين من قبل أصحاب المصالح الشخصية فإنه رب حق أريد به باطل تحت غطاء العناوين الثانوية أو حصل في حقه التحريف في مواطن التطبيق و دعوى تشخيص المصالح بعيدا عن قاعدة الشورى و حدود الحرية و مجالات صلاحيات الحكومة الإسلامية .
فالشرع تبيان لكل شيء ما ترك أمرا إلا وبين حكمه فإذن ليس هناك من منطقة فراغ بما توحي به العبارة بحسب ظاهرها البدوي من ترك الشرع لواقعة أو حكم قد أوكل أمره إلى ولاة الأمر .
و لا أظن أن الشريعة ثابتة بأحكامها الوجوبية و التحريمية فقط لتكون بقية الأحكام في مواطن الندب و الكراهة و الإباحة محلا لمنطقة الفراغ التشريعي و تصدي الحاكم الإسلامي بل كل حكم لموضوعه باق على ما هو عليه و إنما يقع النزاع في صغروية المصاديق لكبرى من الكبريات من حيث تشخيص الموضوع و يبقى التأمل في جميع الأحكام التي أصابها الفقيه باجتهاده من حيث كونها متطابقة مع الواقع أم لا ؟ و إلا فجميع الأحكام الخمسة يمكن أن تعمها الأحكام الثانوية لأن الضرورات تبيح المحظورات حتى الصلاة بلحاظ كيفياتها و إن كانت هي لا تسقط بحال .
و هذا مما يمكن أن يختلف باختلاف ظروف الحياة و هو ميدان واسع يجري فيه النزاع لكي لا يصبح التقليد جالسا على كرسي الاجتهاد لأن الاجتهاد ليس تقنينا للشرع بل هو سعي للوصول إلى فهم الشريعة و أحكامها الثابتة في نفس الأمر و الواقع التي قد يقع فيها الخطأ من قبل المستنبط كبرويا أو من حيث التطبيق صغروياً .
فإذن الصلاحيات لرئيس الحكومة الإسلامية أو ولي الفقيه محددة في الكبريات بوجوب الالتزام فيها و تنفيذ قواعد الشرع المسلمة و أما الاجتهادية فهي داخلة تحت ضوابط الشورى و أهل الخبرة و الاختصاص و كذلك الأمر في مجال الصغريات ثم يعود التنفيذ إلى رئيس الدولة تحقيقا لقوله تعالى } و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله { فالعزم تطبيق للمنهج بعزم و جد بعد مراحل المشورة مع أهل الخبرة في كافة مجالات العلوم المختلفة .
و نحن اليوم بحاجة ماسة إلى خبراء في كافة المجالات المختلفة للشريعة حتى لا يتوهم البعض أن الشرع ترك جانبا من جوانب الحياة حيث يكون قد نظر إلى جانب من الجوانب فظن وجود فراغ في التشريع .
نعم ليس من السهل التطبيق السليم للشريعة من الكبريات على مصاديقها المناسبة لها بعد الابتعاد عن معايشة الشريعة بأبعادها الثلاثة و لو من بعض الجهات .
فالتطبيق السليم وظيفة اجتماعية تتبع حسن النوايا و العمل بأبعاد المعرفة حتى نتدارك بعض ما حصل طيلة أربعة عشر قرنا من قسوة للزمان على العلم و الحريات و وقوع الأمور في أغلب الأزمنة بأيدي غير أهلها و قد أضاف على هذه السلبيات التي سببت البعد عن التطبيق السليم كما تقدم الكثير من العوامل منها إن الكثير منا لا يرى لغيره حق الحياة في مواطن العلم و المعرفة جازما بأن ما توصل إليه من الاستنباط و الفهم هو الحق الذي لا نقاش فيه و أن كل ما كان مخالفا لهذا الفهم يكون باطلا يجب أن يحكم عليه بالاضمحلال و العدم في حين أن المتنازع فيه من شؤون الاجتهاد و ليس من مسلمات الشريعة .
و ربما صار في بعض المقامات تأييد الرأي بكثرة المؤيدين و الأنصار و الحماس الشعبي بدلا من الاستدلال بالكتاب و السنة و العقل و هذا ربما جرى بين أهل الطائفة الواحدة فضلا عن جريانه بين الطوائف المختلفة الإسلامية التي ساقها الكبر الباطني بدلا من السلام الإسلامي إلى تكفير الآخرين جهلا بالشريعة تبعا لخطوات الشيطان كما تبدو معالم هذا الجهل لدى المكفرة المبيحين لدماء المسلمين فضلا عن غيرهم طهّر الله سبحانه و تعالى منهم الأرض قبل ظهور وليّه الأعظم الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف إنه العلي القدير .
و ربما أضاف على هذه السلبيات كتمان الحقيقة من قبل البعض مماشاة مع السلطات أو استعطافا لعواطف الجماهير ، و راح آخرون ينظرون إلى الجوانب السلبية و لو بمعتقد أنفسهم بدلا من النظر إلى الإيجابيات و الجوامع في العقيدة .
و هناك الكثير ممن يندفع وراء الجوانب الجانبية بدلا من دراسة الأسس و القواعد الإسلامية و إضاعة الحياة في بعض البحوث التي لا طائل من ورائها في دراسة المنهج الإسلامي و السعي بمجادلات شتى لجعل ثمرات نادرة أو وهمية بل قد يصل بنا الأمر في بعض المقامات أن يقول القائل منا : بأن هذه البحوث و إن لم تكن لها ثمرات علمية و لا عملية إلا أنها تفيد لتشحيذ الذهن حتى سارت القرون المعاصرة بنحو من الإفراط و التفريط بالنسبة إلى علم أصول الفقه و إدخال ما لا دخل له بالاستنباط بحيث جعلت الطالب كأنه يسبح في بحر لا ساحل له كما تقدم بيانه .
فالكثير من هذه العوامل و غيرها صيرت الكثير من الحقائق يصعب تناولها سواء في مراحل العلم أو في مواطن التطبيق في حين أنه تقدم أن قلنا أن الأساس و الميزان هو الكتاب المجيد الذي كاد أن يكون عند المسلمين مهجورا .
فبعض العوامل كعدم المماشات مع الكتاب المجيد و السنة العملية التطبيقية ربما أدى لتوهم باطل و هو الاعتقاد بمنطقة فراغ بمعنى قصور الشرع القويم عن بيان كل شيء بعد كون الشريعة هي فطرة الحياة ، وسنن الله لا تبديل و لا تحويل لها سواء في واقع التكوين أو التشريع و إن حقائق الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي لا يمكن تحت شعار الحركية أو التطور أن ينال البشر من قدسيتها كما لا يتمكن أن ينال من القوانين الثابتة الطبيعية أو الفلكية أو الرياضية أو الفيزيائية أو الفلسفية .
فمثلا هناك أسس عقلية حكمية لا تنالها مطارق الحدثان كعدم اجتماع النقيضين أو احتياج الممكن إلى العلة و استحالة الترجح بلا مرجح و كالثوابت في علم الهندسة و الرياضيات و كالفطريات البشرية و الوجدانيات و حسن و قبح ما تسالمت عليه البشرية من الفضائل و الرذائل الأخلاقية حيث لا يمكن أن يقال أن حسن العدل و قبح الظلم أصبح كلاما رجعيا و إن أمكن أن يختلف الناس في محققات كل من العدل و الظلم في الخارج بتبع اختلاف العقليات و الحضارات و الديانات .
فشعار التطور و التغيير يجب أن يلحظ بدقة كي لا يأخذ جانبا وهميا يوجب الخلط بين نواميس الكون الثابتة و الأحكام التابعة لموضوعاتها تبعا للمصالح و المفاسد المتغيرة بما يناسب الزمان و المكان و الأفراد و المجتمعات البشرية و ما هو من شأن التكامل الذي بني عليه عالم الإمكان طرّا بحيث يعم الجبال و الكواكب و المجرات لسيلان عالم الإمكان نحو الكمال كما قال تعالى } فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب { فلا ليل ثابت و لا نهار و لا جبل فكل في فلك يسبحون و قد أمرنا أن نربي أبنائنا لزمان غير زماننا لما هو من مقتضيات التطور تبعا للزمان و المكان .
فإذن لا يجوز الجمود لكونه ينافي سنة التطور في الأرض بما فيها من التكامل و التغيير و لا شيء ثابت من أرض و لا سماء حيث تُبّدل الأرض غير الأرض و السماء غير السماء فالكل محكوم للتبدل و التغيير و السير نحو الغايات و غاية الغايات اللامتناهية في الكمال هي الله سبحانه و تعالى فبهذا اللحاظ و التقويم لمعرفة المباني الإسلامية لا ثبات لأي موجود لسيلان عالم الإمكان و الحركة نحو الكمال المطلق .
و من ناحية ثانية أنه سيلان و حركة نحو الكمال تحت ضوابط العلم و النواميس المحكمة السليمة الصحيحة .
فإذن هناك قواعد و قوانين و سنن و محكمات و أصول ثابتة في كافة المعالم لا تبديل و لا تغيير لها هي ضوابط التكامل لعالم الإمكان و ليست منهجا للجمود و التخلف مع عين ثباتها .
و هناك سنن بما يناسب المكان و الزمان فهي ثابتة بلحاظ موضوعاتها و ظروفها الخاصة فمثلا يقال إن في كذا ضوابط و شروط و زمان و مكان يقع كذا شيء و في كذا ظرف يجب الحرب أو السلم أو الصلح و عند كذا فصل يكون الجو باردا أو حارا و هكذا آلاف الضوابط التابعة لشرائطها و عللها بما يناسب ظروفها الخاصة سواء كانت بحسب التكوين أو بحسب العقل بحيث يجب أن يكون الإنسان متفاعلا مع مقتضياتها حتى لا يحكم على الليل بحكم النهار و لا على الشتاء بحكم الصيف و لا على السلم بحكم الحرب و لا على الصديق بحكم العدو و لا على الجاهل بحكم العالم و لا على نفسه في أيام شيخوخته بحكم ما كان شابا .
و لا يطبّق على نفسه أحكام الصحة حينما يصبح مريضا و لا يتعامل مع مستوجبات الغضب و الشدة تعامل البسمة و الحنان و هذا التغيير للأحكام من لوازم تغيير الموضوعات و الزمان و المكان و بقية المستجدات و العوامل التي يجب التعامل معها طبقا لما تقتضي الأشياء تبعا لعللها و أسبابها من الشرائط الطبيعية و العقلية .
و عليه فنحتاج إلى لجان من أهل الخبرة و الاختصاص في كثير من المواطن لدراسة السنن الثوابت بإطلاق الكلمة و إلى معرفة السنن الثوابت بحسب زمانها و مكانها و مستوجباتها الخاصة بما لها من الاختلاف بمصاديقها و كيفياتها و مظاهرها و ما هو من شأن السيلان و التغيير و التبديل لحركة كل شيء نحو غايته الخاصة بما للأشياء جميعا من الحركة نحو غاياتها حتى لا يقع الخلط بين السيلان و التغيير الذي هو من شأن الكمال لكل شيء حتى لا يفر الإنسان من الجمود و التقليد و يقع في مغالطات كلامية و أوهام باسم الثقافة و التطور بالتحلل من كل شيء بلا تنقيح و لا تمييز لما هو من شأن التكامل و التغيير لكل شيء بحسب ما يناسبه و بين ثوابت السنن في عالم الإمكان .
فلا بد من تنقيح البحث لمعرفة مواطن الثبات و محكمات السنن و ما يكون من السنن المتغيرات في عين ثباتها في أصول قواعدها بتبع ظروفها الخاصة من السيلان و التغيير لكل شيء في عالم الإمكان من حيث المصداق سواء كان التغيير في جوهره أو كمه و كيفه أو بقية شؤونه و خصوصياته المختلفة و ما هو من الثوابت بحسب واقع النفس و الفطرة و الخلق السليم .
0 تعليق