المحاضرة العاشرة في تفسير قوله تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم
دعاء من المؤمن على لسان ربه أن يصبح من الذين أنعم الله تعالى عليهم بأعظم نعمة وهي نعمة الهداية والتوفيق للعمل الصالح المشار إليه بقوله تعالى في سورة النساء (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ولا يتمكن العبد المؤمن من السير على هذا الصراط بمجرد معرفة الكتاب والسنة مالم يعش حياة هؤلاء العظماء الذين ذكرتهم هذه الآية الشريفة ليكونوا له أسوة حتى لا يجعل الرجال صحابة او علماء ميزانا للحق مع وجود من هم موازين الحق صدقا الذين بهم توزن أفعال الرجال من الذين أشارت الآية إليهم , والصراط الذي من شأنه ان يجعل العبد من الذين أنعم الله عليهم هو ما أشار إليه تعالى (….وأعبدوني هذا صراط مستقيم) حيث وصفه بالإستقامة التي هي سبيل عدل وأقرب طريق الى الله تعالى وعدّ تعالى النعمة بتمام معنى الكلمة هي هذه النعمة وكأن بقية النعم من المال والجاه وغيرهما إذا كانت بأزاء هذه النعمة تصبح بحكم العدم.
أجل أين مكانة النعم وإن عظمت إذا جُعلت بأزاء نعمة القرب والرضوان والخلود في الجنان في جوار النبيين والصالحين وأن جميع الخلق على إختلاف المشارب والغايات هم سالكون سبل ربهم وكادحون إليه شاؤوا او أبوا لأنه تعالى هو المبدأ والمنتهى المشار إليه بقوله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون) والمشار إليه بقوله تعالى (ألا إلى الله تصير الأمور) فكل السبل والمسالك قربت او بعدت تؤدي إليه تعالى وإن بعدت بعض المسالك عن غاياتها وراحت لتأخذ بصاحبها إلى أن يكون سالكا مسالك ربه وراء الخلائق طرا حيث أنه إن دخل أهل الإيمان برفيع معارفهم وحسن عملهم الى الجنان وساروا فيها القرب والرضوان نحو المبدأ اللامتناهي بلا حجب ظلمانية وراحت لتتبدل الجنان الى جنان أخرى وأصبح القرب قربا آخر إلى مالانهاية له لشهود أنوار ربهم فإنه كذلك لابد وأن يتحرك الخاطؤون ملايين السنين وراء قوافل السائرين حيث أنه لا غاية إلا الله لكنهم يسيرون مع ما هم عليه من أثقال ظلماتهم وقيود هوياتهم التي لا يتمكنون من التخلص منها حتى ولو انتهت موجبات التأديب والتطهير الإلهي عدلا لتحقيق الحقوق وتطهير النفوس بالنيران من أدرانها لكن أنى لهم من التخلص من واقع هوياتهم فهي تصبح من لوازم ذاتهم التي لا تنفك عنها حينما إختاروا ذلك لأنفسهم في دار الإختبار بسوء إختيارهم كبرا وعنادا وإن لم تكن هذه اللوازم ذاتية بما يقول بذلك بعض الفلاسفة او المجبرة بالرجوع الى الماهيات او القضاء والقدر الحتم الإلهي العائد الى التكوين والفيض الإلهي ولذا قال تعالى بالنسبة الى هؤلاء المغضوب عليهم (اؤلئك ينادون من مكان بعيد) السجدة 44, حيث أنهم بعيدون عن الغاية وهي الله لأنه المبدأ والمنتهى وذلك حينما ظنوا لكبرهم وعنادهم ماليس بغاية غاية ولذا قال تعالى (إن الذين كذبوا بآياتنا وإستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء) الأعراف 40, فأصحاب الصراط المستقيم هم من حصلوا على أعلى النعم بل وحقيقة النعمة التي هي نعمة الهداية والتوفيق والعمل الصالح.
ومن المعلوم أن الصراط واحد والسبل المؤدية إليه متعددة ففقيه بفقهه وحكيم بحكمته وعارف بعرفانه وطبيب بطبه وكاسب وفلاح بمهنته وعمله قد يتوصل الى الله تعالى بما منحه من عقل وفطرة والطرق الى الله على قدر أنفاس الخلائق شهودا للحقائق وعلى قدر شهود الحق تعالى ذاتا وصفة كما هو شأن الاولياء حيث يقول (قائلهم بك عرفتك) ولذا قال تعالى بالنسبة الى السالكين إليه (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69, حيث قد أعطى الله تعالى عباده المجاهدين في سبيله ضمانا لهديهم للوصول إليه وإن تعددت السبل إلا أنها بعد الجهاد بزكاة النفس والعلم توصلهم الى الصراط المستقيم وقد أكد ذلك في قوله تعالى (قال هذا صراط علي مستقيم أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر 42, فهو ضمان آخر لمن كان عبدا مجاهدا للوصول إليه وإن الغاوين غير هؤلاء لأنهم ليسوا بعباد حقا كما وأنه أرشد عباده الذين لا يريدون الوقوع في شباك الشياطين لتحصينهم قائلا (إنما وليكم الله و رسوله والذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة55, ومن المعلوم أن المراد من الآية هو سيد الوصيين علي أمير المؤمنين حتى لا يصبح أذناب الشياطين من الحكام الجهلة الظالمين و وعاظ السلاطين من يرسم للناس مناهج ربهم الى الصراط المستقيم بل لا يكون الهادي إليه إلا خلفاء النبيين لا كل من هب ودب من الدجاليين والمنافقين.
فهذه سنة الله في خلقه ولا تبديل لسنة الله ومن بعد عن سنن الله تعالى بتبع الهوى ومتابعة الأكثرية والحكام جمعه الله تعالى مع أئمته يوم الحساب من شياطين الجن والإنس , وقد أخذ تعالى على الأقلام وإن كانت طالما غالطت نفسها وكابرت الحق وحاولت أن تكتب في صحاحها خلاف الواقع إلا أنه ابى إلا أن يجري على أقلامها ما هو الحق حيث قد جاء في صحاحهم عن الرسول (ص) أن الأئمة او الخلفاء من بعدي إثناعشر كلهم من قريش كما جاء ذلك في صحيح البخاري وغيره وما ذاك إلا إتماما للحجة ليوم الحساب و إن راح ليعرض عن ذلك القارؤون ويمروا عليه مرور الكرام غير متأملين في معناه حينما يصدم الحق أسماع المعاندين والتائهين كما و أنه قد جاء في حديث آخر متفق عليه وهو ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) حيث أنه لو قال القائل لأي احد من المسلمين هل أنك لو مت ولم تعرف الحاكم الفلاني في بلادنا الإسلامية على ما أنت عارف به ما هو عليه من الغواية والجهل والظلم هل تموت ميتة جاهلية وهل ترى بعدم معرفته انك تخرج من طاعة الله تعالى؟ لقال لك بكل قطع و إصرار حاشا لله ذلك وحاشا لنبيه (ص) نبي الرحمة ان يقصد أمثال حكامنا من الظلمة والجهلة والفاسقين, فبقاء مثل هذه الأحاديث في صحيح العامة إنما هو لإتمام الحجة ليوم الحساب.
(غير المغضوب عليهم)
المغضوب عليهم المعاندون المصرون على الباطل بعد عرفانه ولكن بعض الروايات تشير إلى أنهم اليهود فيكون ذلك من باب ذكر المصداق حيث ان بعض علماء اليهود كتموا الحق وخالفوه عنادا فإذن لا يراد من ذلك إلا بعض علمائهم وليس للتحديد والحصر بهم كما وأن بيان المصداق غير المفهوم من الآية بما هي آية حيث لها دلالتها العامة الدالة على غضب الله عليهم وعلى غيرهم من الذين تشير إليهم الآيات على أنهم من المغضوب عليهم كالطواغيت ومن يقتل مؤمنا متعمدا وغيرهما كثير لكن قد يقال كيف تشير الروايات ولو بنحو المصداق البارز الى بعض علماء اليهود وهم من اهل الكتاب وتترك الملحدين والمشركين والجبابرة من الحكام وغيرهم من فرق المتكبرين والكثير من الدجالين حيث يتضح ذلك بتقديم مقدمة نسترشد بها لنعرف من هم أشد عنادا للحق فنقول إنا إذا جئنا الى المسلمين لوجدنا النواصب منهم أشد حقدا على مذهب الحق من غيرهم حيث يراهم المتتبع قد تركوا المشركين والملحدين واليهود والمستعمرين والمحتلين للبلاد الإسلامية وراحوا ليعيشوا ليلهم ونهارهم أحقادهم الطائفية ضد مذهب الحق عنادا بدوافع الحقد والجهل المدعوم بالخوف على المصالح الشخصية حيث يجزم الإنسان أنه ليس هناك من هو أشد حقدا وخطرا على مذهب أهل البيت من أمثال هؤلاء النواصب الحاقدين وبذلك يطمئن أنما تشير إليه الروايات من جعل بعض علماء اليهود أبرز مصداق للمغضوب عليهم لأنهم من أشد الناس حقدا على الإسلام وبذلك يكون الأمر واضحا.
كل ذلك إن قلنا أن المراد من الغضب الإلهي غضبه عليهم لحقدهم على الإسلام والمسلمين كما يكون غضبه على النواصب لحقدهم على مذهب الحق وقد نقول إن غضب الله تعالى عليهم أعم من ذلك بما يشمل عنادهم ولجاجهم في كل الأمور حيث أن من خبثت سريرته دفعت به الى العناد في كل شيء ومن تتبع خلافهم لنبي الله موسى عليه السلام وكذلك لنبي الله عيسى عليه السلام وبقية النبيين يجد ذلك واضحا وهذا ما جعلهم من المغضوب عليهم كما وأن من خالفوا الحق بعد الرسول (ص) وإنقلبوا على الأعقاب هم من أبرز مصاديق المغضوب عليهم لعرفانهم للحق ومن أبرز هذه المصاديق هم الناكثون والمارقون والقاسطون الذين حاربوا إمام الحق عليا (ع) لأنهم خالفوا الحق بعد عرفانه عنادا ولجاجا بدوافع الأحقاد والمصالح.
وبالجملة إن أصحاب محمد (ص) الذين عرفوا الحق وخالفوه لأهوائهم عنادا للحق لا شك أنهم أشد عقابا عند الله من الجهلة المشركين , وثانيا نقول إن من حقد على الحق لمصالحه الشخصية وغطاها بالمظاهر الدينية لهو أشد من غيره خطرا على الحق و لذا راحت الروايات لتذكر هؤلاء بالإسم حيث يكون النفاق المتلبس بلباس الدين والتقوى لا أخطر منه على وجه الأرض وليس هناك مكان في الجحيم أشد منه حيث أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهذا مما لا مانع منه ولذا لا يمكن ان يقال كيف يكون بعض علماء اليهود من أبرز مصاديق المغضوب عليهم حتى من الملحدين والمشركين والطواغيت وذلك لأن المعاند عن بصيرة وعلم أولى بالغضب من الجاهل و إن كان المغضوب عليهم له مفهوم عام وهم كل من لعنهم الله تعالى في آياته الكريمة حيث يكون منهم من قتل مؤمنا متعمدا ومن حرّف الكلم عن مواضعه وقد ورد عن علي (ع) كل من كفر بالله فهو مغضوب عليه كما وأنه مما لا شك فيه أن الظلمة والطواغيت من المغضوب عليهم ومن أبرز المغضوب عليهم من المسلمين هم النواصب الذين عاندوا الحق وحاربوه طيلة القرون من وفاة رسول الله ليومنا هذا حقدا على مذهب أهل البيت و تأييدا للحكام.
وها هنا قد ترد بعض الشبه بالنسبة لما ورد في سورة الحمد نشير الى بعضها وندع الجواب عنها لمحاضرة أخرى و إن من جملة هذه الشبه أنه قد يقال إن طلب الهداية في قوله تعالى (إهدنا الصراط المستقيم) كيف يكون لمن هو مهتد ومؤمن بالله ورسوله وكتبه وعليه فيكون هذا الطلب من باب تحصيل الحاصل.
ومن الشبه في المقام أيضا أن يقال أن الدين الإسلامي هو أكمل الأديان فكيف يطلب المسلم المؤمن من ربه طريق الذين أنعم الله عليهم من المتقدمين وهو يعيش شريعة محمد (ص).
ومن الشبه أيضا أنه ما هو ذنب المتقدمين إذا كانت شريعة محمد (ص) هي اكمل الشرايع وفي المتقدمين من العظماء كالأنبياء والكثير من المؤمنين والكثير منهم ممن لا يقاس بكثير من المتأخرين من أتباع محمد (ص).
ومن الشبه أنه لماذا يقول الإنسان (إياك نعبد وإياك نستعين) بصيغة الجمع والمتكلم في صلاته او دعائه يتكلم وهو فرد فكيف أعطى نفسه عنوان الجمع في المقام.
ومن الشبه أيضا أن طالب الهداية إنما يكون ضالا فهل نحن ضالون حتى نحتاج الى هداية بعد كوننا نعيش الإيمان والمعرفة بالإسلام ولو إفترضنا الضلالة بالنسبة الى سائر الناس من المؤمنين لكن كيف يعقل تصور ذلك بالنسبة الى الرسول (ص) و أهل بيته الكرام (ع) وهم كانوا يكررون هذه الآية في صلاتهم كرارا كل يوم , فهذه الشبه وغيرها سنحاول الإجابة عليها بقدر الإستطاعة في المحاضرة الآتية بإذن الله تعالى والحمد لله .
0 تعليق