الإمام المهدي (عج) الخطيب الرسالي
تنحدر قوافل البشر منذ آلاف السنين كالسيل المتدفق يتلو بعضها بعضاً ينسي اللاحق منهم أحلام الماضين و يودع ما شيّدوه من عروش بعظيم أوهامهم في طبق محافل الغابرين و إن كانوا بالأمس هم ربّان سفن هذه الدار يبحرون في بحور أوهامها و يتخذون من نسيج عناكبها بيوتاً ظناً منهم أنهم في كنفها من الآمنين حتى أسلم هدير الأمواج أجسامهم منازل الوحشة و ديار الغفلة فسكت عندها بليغ القوم و انهارت عروش الأوهام .
و قد جئت في مسيرة الكون أحثّ السير مع السائـرين بوجد و حنين أصطحب الأجيال لأصبح خيالاً لا يتحدث عنه الركبان و وهماً لا تحكي وحشة فراقه الوديان، فخضت في جنبهم بحور الأوهام و طربت في كهفهم لوتر الأنغام ثم رحت أخاطب النفس بعد ربيع أنسها و محافل جهلها قائلاً: لِمَ صرت اليوم لا أُذكر في حفل و لا مقام و لا في جبل أو سهل و لا في بحر أو بر؟!.
أجل أسلمتني كوارث الحدثان لخلسة صمت مؤلمة و قد كنت من قبل أجد السير مع السائرين شاهدت من خلال المطاف بريـق الرايات كيف راحت تساق إلى منازل كدحها و محافل وجدها كل منها يظن وقفة الكون إجلالاً لهيبته و تكريماً لبريق رايته و قد راح أصحاب الرايات يسمع كل منهم تكسر أضلاع المضطهدين تحت رايات السائرين فيرى أنينهم جرماً و صراخهم كفراً وارتداداً.
فشاهدت من خلال هذا المشهد الرهيب كيف تسلق الذئـبان الأعواد باسم سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وكيف سالت الأقلام بدماء الشهداء و البائـسين لمرضاة الطغاة الجائـرين و كيف رسمت لوحة الكون بأجمل ما يكون باسم أصحاب المال و القادة الماكرين حتى رأيت أمراً عجباً ، كيف صار الطليق أميرا للمؤمنين و الطريد وزيراً بل خليفة لسيد المرسلين (ص)
فوقفت مدهوشاً تطوف بي الأفكار، أنظر مواقع النجوم علّني أشاهد قمراً منيراً حجبته عن الأبصار غيوم الأوهام في حين أنها أيقنت بواطن القلوب بأن بظهوره تحقيق الغاية من بعثة الأنبياء ليقوم الناس بالقسط لرب العالمين حيث قال تعالى : }إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق{ و قال تعال>و ما خلقت الجن و الإنس إلاّ ليعبدون<[1] و قد مرّت البشرية منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى الخاتم (ص) إلى يومنا هذا بأليم من الأمر و هول مطّلع شديد الإعصار ذاقت البشرية فيه شتى أنواع الجور و العدوان كان ثمر الإنحراف عن موازين الصراط المستقيم و ما كسبته أيدي الناس من الفساد في البر و البحر .
و قد تجاوزت الأحاديث التي تتحدث عن مجيء منقذ البشرية في كتب المسلمين ثلاثة آلاف حديث على اختلاف ألسنتها لكنها جميعاً متفقة على أنه من آل محمد(ص) كما تنص على ذلك الصحاح عند الفريقين منها صحيح البخاري و الترمذي و سنن ابن ماجة و ابي داود و مسند الإمام أحمد ابن حنبل و ذخائـر العقبى و صواعق ابن حجر و الشعراني في اليواقيت و ابن العربي في الفتوحات المكية و الشبلنجي في نور الأبصار و كذا في كنز العرفان و العديد من كتب الخاصة حيث تشير الروايات إلى أن السماء تنزل بركاتها و الخير يعم و أن الأرض تخرج كنوزها و أفلاذ كبدها.
فالتأمل في هذه الأحاديث يلفت نظر القارئ إلى حتمية مجيء منقذ للبشرية به تحقيق الغاية من بعثة الأنبياء لتخرج الشرائع من مرحلة الفرضية إلى واقع التطبيق في كافة أبعادها علماً و عملاً حتى لا يقول قائـل من الأولين و الآخرين يوم يقوم الناس للحساب لعلّ الشرائع التي دعت إليها الأنبياء من زمن آدم (ع) إلى الخاتم (ص) كانت مثالية معنوية بعيدة عن منهج السلوك و التطبيق.
أضف إلى الأخبار ما دلّ على ذلك من إجماع المسلمين على مجيء منقذ للبشرية من آل محمّد (ص) على الرغم من الإختلاف في كونه مولوداً أو سوف يولد و حكم العقل بتحقيق هدف الأنبياء للدعوة إلى الكمال المطلوب الذي لم يتحقق منذ خلق الله تعالى البشرية على وجه الأرض .
و كذا ما دلّ على مسألة العدل العالمي من الآيات قال تعالى : >و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئـمة و نجعلهم الوارثين<[2] و قال أيضاً >و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون <[3] و قال تعالى أيضا > وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئـا<[4] و قال تعالى> هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون<[5] .
محتملات في تطبيق العدل العالمي
قد يتسائـل الإنسان أنه كيف يمكن تطبيق الشريعة على أيدي منقذ البشرية المهدي الموعود (عج) بكل أبعادها العلمية و العملية بالأخذ بأيدي الناس إلى الكمال و العدل بعد ما ملئـت الأرض ظلماً و جوراً في حين أنه مرت على الأمم دعاة حق على اختلاف مراتبهم من آدم (ع)إلى سيد الكائـنات محمد (ص)لم يتحقق ذلك على أيديهم ؟.
فالمحتملات في المقام أمور كثيرة ربما يكون منها إقامة الحق بواسطة ولاية تكوينية تسلب الناس اختيارهم أو للقدرة و الهيمنة الإلهية تكاد الناس أن تلجأ إلى العمل بالحق لأنهم لا يرون للفرار منه سبيلا و منها أن يظهر الله تعالى للبشرية بأسماء القهر و الملك و الهيمنة كما هو كائـن في يوم القيامة >لمن الملك اليوم لله الواحد القهار<[6] فتستسلم الناس للحق خوفاً من السلطان الإلهي.
و منها أنه تعالى يظهر آياته الكبرى كإظهار الملائـكة أو إظهار من ينادي بين السماء و الأرض داعياً الناس إلى شريعة محمد(ص) على أيدي مهدي هذه الأمة و منقذ البشرية أو يظهر نيرانه و جنانه و ما شاكل هذه المظاهر و الآيات الكبرى التي لا تبقي لأحد روح الشقاق و النفاق أو الشك في حقائـق الأمور .
و منها أن تقام الأمور و موازين الحق بواسطة ولاية من المعصوم عليه السلام بحيث لا تبقى لأحد مفراً من سلطانه ، و منها أن تقام دولة الحق كما أقيمت لسليمان عليه السلام بما مكّنه الله تعالى منه من سبل أو بما هو أوسع من ذلك، و منها أن تسبق الدعوة إلى الحق حوادث و حروب تبيد أكثر البشرية فتجعل الباقين مستعدين لقبول منقذ يخرجهم مما هم عليه من الدمار و الخوف .
و منها أن يمد الله تعالى وليه بمدد كما أمد موسى و نوحاً و محمداً عليهم أفضل الصلاة و السلام.
فيجعله بذلك قادراً على القضاء على كل مخالف و كافر و منافق و لو بخوض حروب عالمية بمدد من طريق السبل العادية ، و منها تحقيق العدل بمعجزات حتى يستسلم الناس إلى ما يقيمه من الإعجاز ، و منها أن يبلغ الناس بأنفسهم قبل الدعوة إلى الحق مرتبة من الكمال و العلم بحيث تجعل الجميع مستعدين لسماع دعوة الحق و الرشاد بقلوب صاغية لكل كمال و علم و عدل و إحسان .
و منها أن النفوس لمّا تيأس من كل داعية تدعوا الناس إلى العدل على اختلاف مذاهب الدعاة إلى العدل من موحدين إلهيين من اليهود و النصارى و المسلمين على اختلاف مذاهبهم سنة و شيعة ، لمّا يجد الناس أن الفعل يختلف عن القول و أن الجميع لا يخدمون إلاّ مقاصدهم الشخصية و أهوائـهم الخاصة بعيدين عن روح الشرائـع و كذا من بعد ما تلمس البشرية أن بقية الدعاة إلى العدل من العلمانيين و الشيوعيين و غيرهما لا يسعون أيضاً إلاّ إلى مقاصدهم الشخصية تحت غطاء العدل و أن الجامع لجميع الدعاة إلى الحق و العدل و إن اختلفت الأسماء هو الهوى و المكر و الخداع للوصول إلى المئـارب الشخصية و من ناحية أخرى يتعب الناس من ضياع الحياة في الشهوات و الملذات تستعد النفوس عند ذلك إلى الإصغاء إلى دعوة حق حقيقية يسبق فيها العمل بالعدل القول على أيدي داعية حق تنحدر من جوانبه سيول الرحمة و العدل و الإحسان و العلم .
و من المحتملات أيضاً أن الفرض الأخير الجامع هو ما دلت عليه بعض الأخبار يكون مع بعض المحتملات المتقدم ذكرها بالأخص الأخيرة منها فيكمّل بعضها بعضا فتكون جميعها كالمعد أو المقتضي لتحقيق و بسط العدل على وجه الأرض واستعداد النفوس لقبول شرائع النور و الرشاد.
و الأخير أقرب الوجوه في المقام و إن كانت بعض الوجوه أولى من بعضها في الإعداد لجعل النفوس أكثر إصغاء من غيرها .
لكن إقامة الحجة على الماضين و الباقين بواسطة الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه لا تناسب بعض المحتملات كإقامة الحجة بواسطة ولاية تكوينية أو سلطة تسلب النفوس اختيارها بل لابد أن تقام الحجة مع فرض بقاء الدنيا دار اختيار و اختبار لأنها سنة الله تعالى في أرضه و في عباده لإثبات كون الرحمة و اللطف الإلهي كان منذ بعث الله تعالى آدم عليه السلام إلى الخاتم (ص) ثابتاً و أن المانع كان من قبل النفوس البشرية و إلاّ فلا نقص في المقنن و لا القانون و لا القيادة فالمقتضي و الشرط كان حاصلاً للسير نحو الكمال و تحقيق الحق و العدل و الإحسان لكن المانع هو السبب لكل ما عانت البشرية من الهوان و الجور و هو ما اكتسبته أيدي الناس من الفساد في البر و البحر اتباعاً للهوى و إلاّ فقد أخذ الله تعالى على نفسه لطفاً بحال العباد أن يهديهم إلى الصراط المستقيم قائـلاً : >و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين <[7] .
طول عمره الشريف (عج)
من جملة أهم سنن الله تعالى في عباده جعل الأوصياء بعد الأنبياء لتعيش الأمم بعد أنبيائـها حضارة السلام و الإيمان على أيدي النقباء و ينتهي بذلك ما يكون من رواسب الجاهلية على شتى أشكالها و مذاهبها طيلة تربية تستمر إلى اثني عشر عقب و جيل.
و قد أراد الله تعالى ذلك أيضاً في شريعة محمد (ص) بواسطة اثني عشر نقيب دلت على ذلك أخبار العامة و الخاصة حتى لا تندرس معالم الحق وسبل الرشاد كما اندرست في ربوع الماضين و بقيت الأديان هيكلاً صورياً و جسداً لا حراك فيه، كل ذلك لو أحبت الأمة الحياة و العز و الكرامة .
ثم خصص الله تعالى هذه الأمة المرحومة و هي أمة محمد (ص) بأن جعل بين ظهرانيهم ولياً من أعاظم أوليائـه الكرام مستوراً عن الأنظار لكي تلبّى دعوة الأمة لو رجعت يوماً إلى الصواب و طلبت من ربها تحقيق العدل، لتكون الإجابة من الله سبحانه وتعالى للرشاد بنفس يوم صفا القلوب و بعدها عن الهوى و الجهل و الضلالة لطفاً من الله تعالى بحال العباد ليكون بقائـه حجة من الله تعالى على الأمم يوم يقوم الناس للحساب في يوم الدين و يكون حجة على الماضين و الباقين بأن عدم التطبيق لشرائـع السماء كان من جهة بعد الناس عن الحق و الصراط المستقيم .
لكن قد يورد بعض الناس هاهنا شبهة بالنسبة إلى طول عمره الشريف يحتمل أن يكون منشأها أحد أمور نذكر بعض المحتملات في المقام :
منها أنه قد يكون منشأ الشك راجعاً لعدم معرفة الشخص عموم القدرة الإلهية بالنسبة لكل ممكن بعد كون طول العمر من الممكنات لا من المستحيلات فيكون البحث عند ذلك بحثاً توحيدياً راجعاً لإثبات عموم القدرة الإلهية مع المتردد في ذلك الأمر.
و منها أن يكون الشك ناشئاً بسبب الجهل بمسائل العلم و كون الخلايا قابلة للبقاء الطويل لو لا حدوث العارض من الإفراط و التفريط في مستلزمات الصحة أو للجهل بها و ما شاكل هذه العوائـق التي تعرقل مسيرة الحياة الصحية من أمور مادية أو نفسية و كون هذا بعيداً عن ساحة أولياء الله تعالى الذين يريد الله سبحانه إبقائـهم لأغراض هو أعرف بها من غيره من الخلق.
و منها أن يكون الشك ناشئـاً من جهة البعد عن معرفة مسلكية المذاهب الإسلامية حيث ذهب الكثير من أعلام المذاهب سنة و شيعة إلى الاعتقاد ببقاء الخضر و عيسى عليهم السلام و كذا بقاء أصحاب الكهف أيضاً حيث لا يكون القول بعد ذلك ببقاء مهدي هذه الأمة بدعاً من القول في مناهج المسلمين .
و منها أن يكون الشك ناشئـاً من جهة البعد عن معاشرة الكتاب المجيد حيث راح يتحدث عن حياة بعض الأولياء قائلاً: >و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً <[8] و لعلها كانت أيام دعوته فقط و عليه يكون على الناقد قبل النقد أن يعيش بعض الشيء مع القران المجيد .
و منها أنه قد يكون الشك ناشئاً من جهة بُعد الشخص عن أحاديث المسلمين أو عن فهم دلالتها حيث كان من جملة ما اتفق عليه الفريقان سنة و شيعة قول الرسول(ص): }من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية{ حيث يقع التسائـل في مصداقية هذا الحديث الشريف طيلة هذه القرون بغض النظر عما يمكن أن يكون من مصاديقه في فترة قصيرة من الزمن ،لكن لا أظن أحداً من المسلمين أنصف من نفسه يقول بأن من مات و لم يعرف الكثير من حكام بني أمية أو بني العباس أو العثمانيين أو الكثير من حكام المسلمين المعاصرين مات ميتة جاهلية و على هذا لم يبق لهذا الحديث من مصداقية في أغلب السنين منذ وفات الرسول ليومنا هذا إلاّ على مسلك الشيعة حيث لم يخلو زمان من الأزمنة كان خالياً من إمام من أئـمتهم عليهم السلام،فعدم التأمل في دلالة مثل هذه الأخبار قد يكون هو المنشأ للإنكار.
و منها ما يحصل من لزوم تعيين خلفاء الرسول تبعا للرغبات و الأهواء كمن جاء ليعين خلفاء الرسول (ص) الذين دلت عليهم الكثير من الأحاديث من السنة و الشيعة على أنهم اثنا عشر نقيباً كلهم من قريش حيث راح ليختار الأربعة الأول بعد وفاة رسول الله (ص) ثم سار ليتخطى الآخرين حتى وصل إلى عمر بن عبد العزيز ثم منه إلى هارون الرشيد و هكذا يحاول بذلك تكملة العدد الذي دلت عليه الأخبار فمثل هذه التوجيهات أيضاً قد تكون منشئاً للإنكار .
و منها البعد عن روح الأحاديث الدالة على أن طول العمر ليس أمراً عجبا كما يشاهد ذلك حينما قيل للإمام الصادق (ع) عجبا من طول عمر مهديكم فأجاب: } ليس العجب من طول عمره و إنما العجب من قصر أعماركم{ .
و منها البعد عن روح الحكمة المستفاد من أحاديث أهل البيت أيضا : إنه ليس من الحكمة و العدل أن يبقي الله تعالى الشيطان الذي يضل الناس و لا يبقي معه إماما يهديهم إلى الصراط المستقيم.
و منها أنه أي مانع في كون طول عمره الشريف على سبيل الإعجاز و الخرق لنواميس الطبيعة بما لها من جريان عادي لو دلت الأحاديث على ذلك لغاية و مصلحة لا يعرفها إلا الله عزوجل .
و منها أنه لِمَ لا تكون الأولوية لأحاديثنا المثبتة لغيبته (عج) على أحاديث غيرنا الساكتة عن هذا الأمر المتفقة معنا على أصل منقذ من آل محمد (ص) حيث أن أئمة الشيعة باتفاق الفريقين هم من أعاظم علماء المسلمين و هم من آل بيت الرسول(ص) فلتكن أحاديثهم شارحة أو مخصصة للأحاديث المطلقة الدالة على مجيء منقذ للبشرية من آل محمد (ص)
[1] : الذاريات 56
[2] : قصص 5
[3] : الأنبياء 105
[4] : النور 55
[5] توبة 32 و متكررة هذه الآية في سورة الصف 9 أيضا
[6] : الغافر 16
[7] : العنكبوت 69
[8] : العنكبوت 14
0 تعليق