المحاضرة الثانية عشر
الشبهة الثانية حول قوله تعالى : إهدنا الصراط المستقيم
الشبهة هي أنه كيف يطلب المؤمن المصدِّق برسالات ربه هداية حيث يقول (إهدنا الصراط المستقيم) والمؤمن يعيش الإيمان فهلا يكون ذلك من تحصيل الحاصل أي طلبا لما هو متحقق بالفعل كما وأنه قد ترد الشبهة بلسان آخر وهي أنه هل نحن ضالون بعد عرفاننا وإلتزامنا بما آمرنا الله تعالى والإجتناب عما نهانا عنه حتى نطلب الهداية ولو افترضنا في حق أنفسنا ذلك فكيف يفترض طلب الهداية بالنسبة الى من هم سادات الخلق وهم محمد (ص) وآله الكرام (ع) في حين أنهم كانوا يعيشون تكرار هذه الدعوة من ربهم أي _ إهدنا الصراط المستقيم_ كل يوم في صلواتهم وفي دعواتهم في خلواتهم مع معبودهم.
وأما بالنسبة الى رد هذه الشبهة فنقول : إن الهداية قد تطلب تارة ويراد منها تحقيق المزيد من الحكمة العلمية بعيدا عن الغلو إفراطا و التقصير تفريطا في ميادين اليقين بالمعارف الإلهية وتارة أخرى يراد منها طلب تحقيق الإستقامة على الطريق سلوكا كما يريد الله تعالى بتبع شهود سيرة من جعلهم الله أسوة لطلاب الحق محمد (ص) وآله الكرام (ع) ومن بهم تتجسد مسالك الربوبية من الأنبياء وعباد الله الصالحين كأبي ذر ومالك الأشتر و زكريا بن آدم وغيرهم من الأبرار حيث تكون الحكمة العملية بتطبيق مناهج الحق و ذلك لأن من سعى لتحقيق شهود الحق بالكتاب والسنة بمعزل عن سيرة الأولياء عاش الخطأ مهما بلغ به العلم مكانة ومن المعلوم أن كلتا الحكمتين تحقيقهما كما يريد الله تعالى لا يكون إلا لمن كان له حظ عظيم ولبيان ذلك نقول إنه لمن الواضح أن حق الهداية وتقوى الله حق تقاته يتوقف على زكاة النفس لإذهاب الحجب بينها وبين ربها و إيقان هو أعلى مقامات المتقين للعروج الى الله تعالى بمشاعل العلم النافع و لا ننسى أن ما أوتي البشر من العلم ليس إلا قليلا و بعظيم مقام العلم يستطيع السالك سبل ربه تحقيق مراتب الإيمان وهذا كله بغض الطرف عن لا نهاية الحق تعالى ذاتا وصفة التي منها العلم والحكمة والسلوك لغاية لا متناهية من قبل العبد إلى ربه يطلبها أولو الأبصار طلب العاشقين و الله تعالى كل يوم هو في شأن جديد به يكون العلم بحورا دفاقة بامواجها اللامتناهية ليكون السالك سبل ربه يعيش الكمال مسايرة مع الأيام الربوبية.
فالمؤمنون المخلصون بفتح اللام هم سلّاك سبل ربهم حقا نحو اللانهايات وبقية المؤمنين كل على قدر سعة وجوده وإيمانه و ذلك لأنه تعالى غايتهم ومعشوقهم وبتبع هذا البيان يتضح أن تصور النهايات للهداية او ظن الكمال المطلق قول غير سديد من قائله بل الأمر بعكس ذلك بمعنى أن طلب المزيد من الهداية هو واقع حال المؤمنين للمسهم فقر ذواتهم و شهودهم لأنوار ربهم اللامتناهية فضلا عن أمثالنا من الجهال القاصرين والمقصرين حيث يكون طلب الهداية واضحا.
فالمؤمنون المخلصون يتسابقون في ميادين الأنوار الربوبية طربا نحو غاياتهم ونحن نبذل الجهد لتطهير النفوس من حجب ظلماتها سعيا وراء شهود الحق أولا ثم العروج إليه تعالى بأقدام ملؤها الضعف وعزيمة ملؤها الوهن.
فإذاً و إن كانت أصل الهداية حاصلة للمتقين إلا أن مراتب الهداية والكمال لا يحد بحد فهؤلاء لشهود أنوار ربهم يعيشون هياما وعشاقا سالكين نحو الكمال , هدانا الله وإياكم الى صراطه المستقيم مع أوليائه الصالحين وعباده المخلصين قبل يوم لا ريب فيه ولا مفر منه ينتظر الخلائق طرّا للوقوف أمام محكمة عدل إلهية (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْبِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) ﴿٢﴾ سورة الحج, ولذا يجب القول متضرعين إليه تعالى بما قال الإمام زين العابدين (ع) : (إلهي إرحمني إذا أنقطعت حجتي وكلّ عن جوابك لساني وطاش عند سؤالك إياي لُبي) حيث لا مخلص لأحد من محكمة العدل الإلهية التي هي غاية الخلق لا بنسب ولا حسب ولا بجاه ولا مقام ولا بمال ولا بنين ولا بعلم ولا مظاهر قدس إلا من أتى الله بقلب سليم وذلك يوم تبيّض فيه وجوه قوم وتسوّد فيه وجوه قوم آخرين.
وأما الهداية بالنسبة الى الحكمة العملية بالسير والسلوك على الصراط المستقيم وطلب الإستقامة والثبات فيها فتلك من أهم مواطن الإختبار الإلهي في دار الدنيا حتى قال في هذا الموطن معجزة عالم الإمكان الحبيب محمد (ص) : (شيبتني آية من سورة هود) حيث يقول تعالى ( فإستقم كما أومرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) آية 112 , و ذلك لأنه كم وكم من مؤمن على طول التأريخ لقلة صبر او قوة شهوة وهوى غيّر وبدل او ضعُف في مواطن مزالق الأقدام حيث البأساء والضراء او زبرج الدنيا و مظاهر حسنها و كم من كم من سالك سبل ربه فتنته الأموال او صنع منه السلطان جبارا او العلم متكبرا فتبدل حُسن الخُلق جبروتا فأصبح بعد الدعوة الى الحق و العدل قائدا للمجرمين او من المكرة والشياطين او صار من أعوان الظلمة و أذناب السلاطين و تأريخ البشر مليء بالذين غيرّوا وبدلوا بعد عرفانهم وكم من أمة بعد صدق النية و قوة العزيمة أصبحت بعد نبيها مصداقا للمنقلبين على الأعقاب تحمل يوم القيامة راية المنافقين وتقف بعد حُسن جهادها تحت راية المنقلبين على الأعقاب حينما حليت الدنيا في أعينهم.
أجل إن الإستقامة على الطريق عملا من أصعب الامور وأهم مواطن طلب العون من الله تعالى لأنها محل مزالق الأقدام وهكذا هي الناس ضياعا في هذه المواطن حيث يعيشون واقعا أشار إليه تعالى بقوله : (إن الإنسان ليطغي أن رآه استغنى).
وقد عاشرت أقواما لا أظنهم كانوا من المنافقين او الدجالين ولا من العُمي المسيسين ولا من الجهّال الضالين لكن الدنيا فتنتهم بزبرجها ومظاهر كراسيها وإذ بهم بعد أن ذاقوا كؤوس خيلاء العظمة نسوا كل ما كانوا من أجله يسعون من الحق ومخالفة الظلم والظالمين حتى أصبح بعضهم من قادة المجرمين ناسيا البؤساء و المحرومين الذين كان هو أحدهم.
فيالله والعجب كيف أصبح ذلك النسك والتواضع والقول بالحق والدفاع عن المظلوم بعد السلطة جبروتا وطغيانا وكيف أصبح حسن الخلق كبرا وأصبح الواحد منهم ذئبا ماكرا او أسدا ضاريا مفترسا لا يرحم صغيرا ولا كبيرا ولا يتيما ولا أرملة و قد كنت قبل ذلك أسمع أمثال ذلك قصصا في تاريخ الأمم السابقة من أن فلانا كان قبل السلطة والحكم يُعرف بحمامة المسجد وأن فلانا كان من مدرسي كتاب الله المجيد او أنه من حفظة القرآن او من أصحاب الأئمة عليهم السلام.
فكل هذا الذي أشرنا إليه في مواطن الحكمتين العلمية والعملية إنما هو لدفع الشبهة بالنسبة الى سائر الناس من المؤمنين و أما ما ورد من شبهة بالنسبة الى الرسول (ص) وأهل بيته الكرام من أنهم كيف يطلبون في كل صلواتهم وغيرها من ربهم الهداية للصراط المستقيم وهم كتاب الله الناطق وكلماته التامات ومظاهر أسمائه علما وعدلا وحكمة فنقول : إن مما أشرنا إليه إتضح الكثير مما يتعلق بهذه الشبهة حتى بالنسبة الى هؤلاء العظماء حيث أن الكمال المطلق شأن إلهي وكل من في الكون طالب من ربه مزيدا من العلم والإستقامة وقد ورد بالنسبة الى الرسول الأكرم (ص) : (ربي زدني علما) كما ورد أيضا على لسانه (اللهم ارني الأشياء كما هي).
فالرسول (ص) وأهل بيته الكرام (ع) أكثر من غيرهم لمسا لفقر عالم الإمكان و فقر ذواتهم وكونهم محتاجين إلى بحور فيضه تعالى بما له من لانهاية الوجود حيث أنهم يسيرون إليه لأنه غاية الغايات وأن العطاء منه غير متناه كما وأن السير إليه بتبع لا نهاية ذاته يكون غير متناه أيضا.
فإذن ما أورد البعض في المقام من شبهة لا إستقرار لها عند ساطع البرهان و واسع الشهود لأصحاب البصائر كما وأن من قال من العلماء بأن الرسول (ص) او هو و أهل بيته الكرام قد أعطاهم الله تعالى كل ما هو من شأنهم فلا فرض لمزيد بالنسبة إليهم فهو كلام غير صحيح لأن عطاء الله لا حدّ له و ان العوالم طرّا حتى عالم الآخرة متغير ومتبدل فلا سماوات ولا أرضين ولا جنان ولا نيران تبقى على ما هي عليه مادامت مرتبطة بالواحد الأحد اللامتناهي ذاتا وصفة وفيضا و هم أولى من غيرهم بمسايرة الأيام الربوية للسير نحو الكمال حيث لا كلام مطلق إلا لله و الحمدلله رب العالمين.
0 تعليق