المحاضرة الحادية عشر
تلخيص و ردّ شبه تتعلق بسورة الحمد
إن مما لا شك فيه أن القرآن المجيد كتاب هداية يسعى لتحقيق الغاية التي بعث الله تعالى الأنبياء من أجلها وهي الهداية التي أريد بها إخراج الناس من الظلمات إلى النور بالحق والعدل الذي أساسه معالم التوحيد ومناهج الربوبية ليعيش الناس الكمال وقد ورد عن الرسول (ص) : (إذا جائكم عني حديث فإعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فإقبلوه وما خالفه فإضربوا به عرض الحائط) لكن كيف يمكن لأمة العرض على كتاب الله تعالى وهي تعيش الجهل بكتاب الله و تجعل الرجال والنساء ميزانا للحق بدلا من كتاب الله المجيد وقد نهانا الرسول (ص) عن ذلك قائلا : (إعرفوا الحق تعرفوا أهله) فجعل بالحق يُعرف الرجال وقد قال علي (ع) : ( إن الحق لا يُعرف بالرجال إعرفوا الحق تعرفوا أهله) لكن جهل الحق وتمني معرفته بالرجال دفع بهذه الأمة أن يصبح زهادها في أعينهم من هم مصاديق (الساكت عن الحق شيطان أخرس ومن أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين ليس بمسلم) حينما إعتبر هؤلاء الرجال الكلام عن الحق والعدل سياسية ليست من شأن رجال الدين فراح ليصبح أمثال أبي ذر من يتدخل في شؤون لا تعنيه أو من يشق عصا المسلمين وأصبح الحسين (ع) بمنظارهم من مصاديق من ألقى بنفسه في التهلكة في حين أنه لو عاش المؤمن حياة الأنبياء و الأئمة و أتباعهم من الأبرار لوجد حياتهم ثورة ضد الجهل و الظلم وهذا ما ساق الرسول محمدا (ص) أن تتكالب عليه طواغيت العرب والعجم وهو بنفسه ماجعل الأئمة عليهم السلام يتضايق من وجودهم أكبر طواغيت العرب لا يقر لهم قرار إلا بقتلهم أو بجعلهم يعيشون في السجون او المعسكرات وهو بنفسه ما جعل أمثال أبي ذر يموتون في الربذة و أصحاب الأئمة الخلّص بين قتيل وفار من طواغيت المسلمين وإلا فلو كان هؤلاء العظماء ككثير من علمائنا محور كلامهم لا يتجاوز طهارة ونجاسة بمعزل عن الدفاع عن حقوق الشعوب المضطهدة وتوعيتهم لإفتخر بهم الجبارون و لقال قائلهم هؤلاء الزهاد الذين تركوا الدنيا بما فيها أبناء عمومتنا لكن لا سلم بين الحق والباطل و العدل والظلم, فخير سبيل لمعرفة الحق وأهله و الباطل وأهله أن يعيش المؤمن سيرة الأنبياء و الأئمة الكرام و سيرة شيعتهم بحق كأبي ذر و مالك وحجر بن عدي وغيرهم من الأبرار فإن بهذه السيرة العطرة سيشاهد الكتاب المجيد والسنة النبوية متجلية ومن أراد فهم الكتاب و السنة النبوية بمعزل عن سيرة الأولياء عاش الحياة ضياعا وظن الزهد المصطنع للتخلص من قيود المسؤولية شرعا.
قال علي (ع) : (رحم الله إمرء رأي حقا فأعان عليه و رأي جورا فرده) وعن الرسول (ص) : (لا تقدس إمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع) فمن هذه الأحاديث و الآيات الشريفة الناهية عن كتمان الحق ومن سيرة المعصومين عليهم السلام و الصالحين من أتباعهم يُعرف أنه لا يحلّ للمؤمن و لاسيما من كان من العلماء ان يجلس في بيته و لا يبالي بما يقع على المجتمع من ظلم وجور و عدوان ومن هوان الدنيا على الله تعالى أن تسمي الأمة المسلمة أمثال هؤلاء العلماء بالزهاد لأنهم لا يتدخلون بشؤون الدنيا وكأنما الدين والتقوى أن يكون العالم قالبا قدسيا تتبرك الناس بأطراف عبائته و ينظرون إلى نور الإيمان في ثفنات وجه ولا يرون بسيرته ثورة ضد الظلم والباطل.
ولا بأس هاهنا أيضا تلخيصا لما تقدم أن نذكر المراد من كلمة السورة والآية وما إحتوت عليه سورة الحمد من إجمال لكل الكتاب المجيد.
فالسورة إما بمعنى الإبانة اي الفصل لشيء عن شيء آخر وهي هاهنا إبانة سورة عن سورة أخرى وجمع سورة سور بفتح الواو وقد تجمع على سورات و قيل السورة مأخوذة من سور البلد لشرفها وإرتفاعها وإحاطتها بالآيات وقيل السورة مصطلح قرآني للتعبير عن الوحدة التي تضم عددا من الآيات الكريمة.
والآية بمعنى العلامة ومن ذلك قوله تعالى (إن آية ملكه) او الإمارة الدالة على شيء و إعتبرت سورة الحمد أساسا لجميع ما جاء في القرآن المجيد لما تتضمنه من معان تشير إلى كل ما جاء في هذا الكتاب حيث أنها تتعرض للحمد والثناء على الله تعالى والإقرار بالمبدأ و صفات الحق والتذكير بالمعاد و الهداية والضلالة والإيمان و كيفية خطاب الله تعالى والعبادة ونفي الشرك و الإشارة إلى تقسيم الناس الى ثلاثة أقسام: من أنعم الله عليهم وهم المتقون ومن غضب عليهم وهم الجاحدون المعاندون ومن ضلوا الطريق.
وأما الشبه و ردها
فمن هذه الشبه أنه لماذا نقول : (إياك نعبد وإياك نستعين) بصيغة الجمع و الحال أن المصلي او الداعي ربه هو شخص مفرد وليس بمجمع ؟ والجواب أن الشريعة بتمامها عبادة وليست هي الصلاة ذات الأركان فقط التي تكون في أوقات معينة إبتداءا بالتكبير وانتهاءا بالتسليم , نعم الصلاة ذات الأركان من أبرز مصاديق العبادة التي هي الخضوع والتذلل بداعي المعرفة والحب لله تعالى حيث أنها تجمع معالم التوحيد جميعا بما تحتوي عليه من معارف قولا بإشعار القلب بها وبما تحتوي عليه من أفعال تبلغ بالمؤمن أن يضع جبهته على الأرض لإذهاب روح الكبر والغرور وللمس الفقر والحاجة الى الله تعالى بالفعل بعد القول و إذا كانت حقيقة العبادة قد خلق الجن والإنس من أجلها كما قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) هي شريعة الحياة التي جاء بها النبيون فإذن ما ذاك إلا لأن المسلم الحقيقي على لسان ربه لا يرى نفسه إلا فردا من أمة تعيش السير والسلوك إلى ربها و أن العزلة ليست دينا ولا زهدا بل الدين واقع إجتماعي إنساني لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التعاون والتواصي بالحق والصبر وأن من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم.
فالإتيان بصيغة الجمع هو بيان واقع حال المسلم على لسان ربه العارف برسالات السماء التي هي دين الإنسانية بتحقيق العدل الإلهي على وجه الأرض و السعي من أجل ذلك حيث أن غير ذلك لا يكون إلا رهبة إبتدعوها ولو كانت في دين الإسلام او نفاقا تلبس بلباس الدين حيث أن من لم يحس بالمسؤولية تجاه ربه و الأمة و إن عاش ليله ونهاره تسبيحا وذكرا فهو ليس إلا من مصاديق الساكت عن الحق شيطان أخرس وإن سماه العامة لجهلهم بواقع الزهد والتقوى زاهدا.
فالمؤمن الحقيقي يعيش روح الحب للآخرين والإحساس بالمسؤولية وكما يريد الكمال لنفسه يريده لمجتمعه و لذا ألفت الله تعالى نظر المؤمن إلى أن العبادة لا تكون إلا بصيغة الجمع وكذلك الإستعانة ليعيش المؤمن هذا الواقع الرفيع من أنه لا دين إلا بالعطاء بكل ما لدى المؤمن مما منحه الله ليعيش المجتمع كنفس واحدة نحو سلوك الغاية.
فإذن ليس القول بأنه لماذا جيء بصيغة الجمع في العبادة والإستعانة إلا شبهة لا قرار لها لدى كل من عرف الإسلام بواقعه الإنساني القائم على الحق والعدل وماذلك إلا لأن الرسول (ص) إنما بعثه الله رحمة للعالمين وهكذا يجب أن يكون المسلم سالكا مسالك نبيه الكريم.
وبالجملة فسواء فسرنا العبادة بالصلاة التي يقوم بها المؤمن في كل يوم بنحو الفرض او الندب او فسرناها بالنهج العام الإلهي الذي يعم العقيدة والعمل في كافة شؤون الحياة فإنها لا تحقق لها إلا إذا كانت تحمل روح المسؤولية والشعور الإنساني للوصول الى الكمال والهداية للآخرين ومن أراد الكمال و الهداية فقط لنفسه بلا أن تدفع به عبادته وإستعانته بالله تعالى لإعانة الآخرين وخدمتهم لا تكون العبادة منه عبادة مثمرة لأن من لا يحمل روح الإسلام الذي هو المحبة بين العبد وربه وبين العبد والخلق لا يكون دينه حقيقة دينا ولا عبادته عبادة ولا طلب الإستعانة من ربه عطاء يحي به نفسه و الآخرين ولذا أراد الله تعالى أن يلفت نظر عبده إلى أن العبادة والإستعانة للوصول الى الكمال من راهب منعزل عن الخلق او ممن لم يُشعر قلبه بالترابط الإجتماعي كأمة واحدة تتحرك نحو الغاية لا تكون تلك العبادة والإستعانة في صراط الله المستقيم فالمؤمن عطاء بروحه وعقله وخلقه وماله وكل ما منحه الله تعالى لإحياء الحق و إقامة العدل والذين تلبسوا صفة العباد والزهاد على طول التأريخ من رجال الدين من اليهود كانوا او من النصارى والمسلمين فإنهم ما كانوا ليوسموا بالزهد لولا جهل الأمم بموازين شرع الله تعالى حيث راح البعض ليرى الزهد قالبا قدسيا بحيث لا يرى رجل الدين ماشيا في الشوارع والأسواق ليصوره في ذهنه ملكا من الملائكة و ما كان ليتحقق ذلك لو عاش الناس سيرة الصالحين من الأنبياء و الأئمة و أتباعهم بحق كأبي ذر وسلمان والمقداد ومالك الأشتر الذين كانوا على طول التأريخ ثورة ضد الباطل والظلم في حين ان المتأمل بالروايات الواردة عن الحجة المنتظر (عج) يرى بوضوح أن رجل الدين هو من تلجأ إليه الناس في حوادث الدهور ليكون راسما لها خطى الحق والعدل ولذا قال (عج) :(و أما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها إلى رواة حديثنا) فهؤلاء الرجال هم سند هذه الأمة في حوادث الدهور وحجج الله على خلقه والحوادث كما تعلمون ليست حكما شرعيا بل هي واقع ما تعيشه الأمة في كافة شؤون حياتها ليكون رجل الدين منار هدى لها تستبين بسيرته معالم الحق والعدل لأن من المعلوم أن بإقامة الصلاة في المساجد وبيان الطهارة والنجاسة وتحجيم الأمر بالمعروف بالأمر بالصلاة والنهي عن المنكر بالنهي عن شرب الخمر لا يتحقق ما كان غاية لبعثة الأنبياء ولا يصبح رجل الدين مصداقا لما أشار إليه الحجة (عج) في قوله : (وأما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها الى رواة حديثنا) هدانا الله وإياكم لمعرفة دينه بسيرة محمد وآله الأطهار وبسيرة الأنبياء والتابعين لهم بحق على طول التأريخ لكي لا يكون فعل الرجال بديلا عن هذه السيرة العطرة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
0 تعليق