تفصيل آخر في قوله تعالى : (إياك نعبد)
الصلاة إنما شُرعت لتنزيه العبد من رجس الكبر والعُجب والغرور والعبادة أداة خضوع وقرب بدوافع المحبة لله تعالى حيث أن الإنسان بعبادته وصلاته ودعائه يلمس فقر ذاته ويطلب العون من الله تعالى للمزيد من القرب والكمال حيث أن الصلاة وسيلة بها يتحقق القرب وهي الحبل بين العبد وربه بل كل العبادات بما لها من واسع المفهوم هي سبل للقرب ولو كانت خُلقا كالصدق والعدل او كانت منهجا في الحياة ولو في المعاملات لأن الشريعة منهاج كمال بكل ما تحمل من معالم وسبل لزكاة النفس في كل هذه الأبعاد ليبتعد العبد بذلك عن الكبر و يندفع بواقع العبودية إلى التواضع ولمس الفقر والتوجه نحو الغني المطلق وهو الله ومن هنا يتجلى ما هو عظيم مقام العبودية حينما يقول العبد مخاطبا ربه (إياك نعبد) في حين أنه ليس هناك من صفة لمخلوق هي أعظم من كونه حقيقة يصبح عبدا لله فمن عبد الله حقا طهر من رجس الكبر الداعي الى الكثير من الرذائل التي من أبرزها الحسد الذي هو من الصفات الحاكية عن جهل الانسان بواقع الألوهية حينما يصبح بحسده يرى الخير لنفسه دون غيره و كأنما الخير حزمة من الخضروات لو أعطيت لزيد قد لا يحصل هو عليها حينما يصبح الحاسد يعيش هذا الضياع بالنظر الى سعة فيض الله تعالى او لفرض حب الذات حيث يصبح يرى أن كل مكانة عظيمة هي من شأنه فقط دون غيره كما حصل لإبليس حينما حسد آدم عليه السلام.
فالكبر مضيعة للعقل ومدعاة للوقوع في الجهل الذي أهلك اكثر الأمم ودفع بها للخروج من القرب الى السقوط في وديان المغضوب عليهم كإبليس بعد أكثر من ستة آلاف سنة من العبادة.
لكن هاهنا يمكن ان يتسائل الإنسان بنفسه هل أن عبادة إبليس كانت بنحو من التسامح في التعبير مجازا كما يقال مثلا رجل صلى بلا طهور حيث يعبر عن الصلاة الفاقدة للشرط بالصلاة في حين أن العمل الفاقد للشرط بحكم العدم ولذا قد يقال بأن إبليس ما كان يعبد الله حقا بل كان مرائيا او منافقا وكانت لحظة الأمر سببا لبروز هذا الواقع المكتوم في ضمير إبليس حيث كان يستره على الملائكة بمظاهره الخلابة حتى سمي عندهم بطاووس الملائكة لكن ما يُبعّد هذا الفرض هو أن إبليس لعله كان يعبد الله حقا فترة من الزمن وإلا لما كان قادرا أن يبلغ مقاما يرتفع به الى مصاف الملائكة الكرام وعليه فنقول إذن إن إطلاق القول بأنه ما كان إلا مرائيا او منافقا يكون من التجاوز في المقال والأنسب أن يقال إنه عبد الله حقا فترة من الزمن ثم لما وجد إعجاب الملائكة به و وجد نفسه في مقام قد ارتفع به عن أبناء جنسه من الجن أصيب شيئا بعد شيء بالعجب ودفع به ذلك الى الكبر وكان من تواليه الفاسدة الحسد حينما يصبح الشخص يرى أن كل خير إنما هو من حقه دون غيره وعلى هذا فنقول إنه لا مانع من القول بان إبليس كما ورد في الروايات كان قد بذل جهدا جهيدا في القرب بما قام به من العبادات وبذلك نال مقاما عند ربه ثم أصيب بالكبر والإعجاب حيث دفع به ألا يرى أحدا في الكون احق منه بالقرب حتى و لو كان الله تعالى قد أعطى مقام الخلافة للملائكة لحسدهم على ذلك وهذا هو شأن كل متكبر يرى نفسه في غير ما هو عليه من واقع وجوده حيث تختلط عليه الاوراق و تضيق المقاييس العقلية.
ولكن هاهنا أيضا تساؤلات أخرى قد تعرض على الذهن التي منها أنه من أين عرف إبليس أنه قادر على أن يؤثر على ذرية آدم عليه السلام وثانيا من أين حصلت له كل هذه الشيطنة والمكر إن كان ما مارس أمثال هذه الأمور يوما من الأيام حينما كان يعيش مع الملائكة ثم قد نتسائل أيضا على أن هذه الشيطنة والخداع هل هو من نتاج الكبر والعُجب والحسد حيث أنها تدفع بصاحبها إلى العدوان والتربص بالآخرين حيث تستوجب أن يكون ماكرا لبلوغ غاياته لكن قد نتسائل أيضا من أين عرف إبليس أنه قادر على التأثير على أكثر بني آدم وإغوائهم في حين أنه ما كان قد خبر الأمر قبل ذلك فهل عرف ذلك من طينة الإنسان وعرف مواطن ضعفها او أنه لغاية نجهلها ولحكمة الإمتحان والإختبار للجن والإنسان قد إطلّع على ذلك؟.
كما وانه هاهنا لابد من الإلتفات الى أن ابليس قد اعتبر من اكفر الكفرة في حين أنه لم ينكر وجود الصانع بل ولا الربوبية بحسب ظاهر السياق وعندها فلابد من القول من أن من كان عارفا بالله تعالى ولكنه لطغيان يمتنع من إمتثال أوامره هو ايضا من الكافرين وإن كان بحسب المصطلح ظاهرا يعد من الفاسقين إلا أن يقال إن عدم امتثال الأوامر من إبليس ما كان مجرد عدم امتثال لأمر ككثير ممن هم عارفون بالله لكنهم لا يصلون ولا يصومون مثلا وإنما كان عدم امتثال لأمر ناشيء عن كبر بالنسبة الى الله تعالى أولا وثانيا هو من جهة تخطئة الله في علمه وعدله والعصاة من الناس غاية ما يصل بهم الأمر هو أنهم لعصيان لم يصلوا ولم يصوموا لكنهم لم ينكروا واجبا ولا محرما ولم يخطئوا الله في علم وعدل وإلا فمن بلغ به الأمر إلى هذا المقام يعد كافرا, كما وأن من بلغ به الأمر أن يشك بصحة تلك الأوامر والنواهي و كونها ناشئة عن قيم ربانية كان كإبليس من الكافرين.
وهنا محتملات يمكن طرحها أيضا بالنسبة الى أن العبادة التي هي أداة قرب لله كيف يمكن ان يصبح صاحبها بعد ستة آلاف سنة رجيما مطرودا من رحمة الله فنقول من المحتملات في المقام أن الذين يعبدون الله تعالى يقسمون بحسب مناشيء حبهم لله إلى قسمين كأي محب يبذل جهدا للقرب من محبوبه حيث أن في متن واقع كل عبادة قد جعل حب المعبود اساسا من اسسها لأن العبادة ليست مجرد امتثال امر لحاكم او لسيد بشري الذي يمكن ان يقوم به المأمور وهو يحمل الحقد للحاكم او لسيده لكن هاهنا يقال إن كانت العبادة لله تحمل في طياتها حب الله كيف أصبحت طغيانا وتمردا على الله والمحب لا يتمرد على محبوبه حيث نقول إن المحب تارة يريد المحبوب لنفسه وتارة يريد نفسه للمحبوب والحب الحقيقي هو الثاني دون الأول لأن الأول يعود في النتيجة الى حب النفس لا إلى حب المحبوب حقيقة وهذا النمط من المحبين يريدون الله تعالى لأنفسهم ولم يريدوا انفسهم لله فمادام الله رازقا هو محبوبهم ولو جاء دور الاختبار والمنع لحكمة لصار الله غير محبوب عندهم وهلم جرى في كل مورد إنما يريدون الله لغياتهم حيث يكون معينا لبلوغ الغايات وسببا لكل خير يعود إليهم لا ممتحنا قد تستدعي طاعته تحمل الأسى والخوف والحرمان والقتل مثلا حيث لا يكون هذا الحب مستذوقا عندهم لأنهم كما قلنا يريدون الله لأنفسهم ولم يريدوا أنفسهم لله وعند التحليل نجد أن حب إبليس لله تعالى كان من هذا النمط ولذا ضربت جميع اركان هذا الحب لما جاء المحك بخلاف من وجد الله كل شيء و وجده الخير والكمال والنور و الجمال و وجد أن بطاعته بلوغ غايات الكمال وأن قضائه وقدره حكمة وأنه تعالى يعطي كل مخلوق بحسب ما له من قابلية فيكون راضيا بقضائه وقدره ولو وجد نفسه بقضاء الله ليس في منازل الانبياء بل ولا في منازل المقربين والصالحين حيث يلمس بذلك أنه قاصر من بلوغ هذه الغايات فمثل هؤلاء المحبون لله تعالى الذين أرادوا انفسهم له لا يصابون بما أصيب به إبليس.
وبالجملة يجب ان يكون العابد يريد نفسه لله تعالى ومن اراد الله لنفسه وظن ذلك حبا وعبادة فهو من الخاطئين لأنه في واقع الأمر يعيش الأنانية وحب النفس لا حب الله تعالى و إن ظن نفسه من العابدين الزاهدين وهذا ما اوقع ابليس في الخطأ حينما قال أنا خير منه اي من آدم عليه السلام.
ومن المعلوم أن حب النفس المفرط إن لم يكن ناشئا من الكبر وإلا فهو يدفع الى الكبر والعجب ومنه ينساق الإنسان الى الحسد والحسد يدفع بصاحبه الى العدوان حيث يصبح الشخص يرى أن كلما في الكون إذا لم يكن في محور وجوده الشخصي فهو خطأ في خطأ ومن مصاديق هؤلاء المصابين بهذا المرض أكثر الحكام في العالم حيث يصل بهم الأمر أن يرى الواحد منهم أنه الشعب والحضارة والتأريخ.
كما وأن من المحتمل أن عبادة إبليس كان النظر فيها من بعد ما كانت سليمة في بداية الأمر التفاخر من بعدما أصيب بالعجب وهو تفاخر على الملائكة وأبناء جنسه من الجن ولعل الذي كان مدعاة لهذا التفاخر هو أنه من بعد ما رفعه الله تعالى عن مستوى أبناء جنسه من الجن وأصبح يعد في مصاف الملائكة المقربين حتى صار في أعينهم طاووس الملائكة دفع به الى زهو كان يعيشه او دُفع إليه من بعد ما أصبح محط نظر الملائكة فدفع به ذلك الاحترام والقرب من الله أن يصبح يُعبر عنه بالزاهد فلمس بذلك أنه أصبح قريبا من الله وأنه ليس كسائر أبناء جنسة الذين هم بمصطلحنا اليوم من العامة بل لعله أصبح ليس بمستوى الملائكة مكانة وعلى هذا فإذا لم تكن منازل المقربين له فلمن تكون هذه المنازل ولذا صدم إبليس حينما سمع ان هناك شخصا اقرب منه منزلة عند الله وهذا من أخطر ما قد يصاب به الانسان وبالاخص إذا اشتهر بين الناس بالزهد وكثرة العبادات وصار يشار إليه بالبنان أنه رجل الأوراد والأدعية فهذا من أشد مواطن الوقوع في الأخطاء حيث قد يصبح الشخص رجيما وهو يظن نفسه من الأولياء المقربين حتى ولو كان من أول الامر ليس من المرائين لكنه قد يدفع به الأمر شيئا فشيئا الى حضيض الرياء ولذا كان على الإنسان المؤمن رجلا كان او إمرأة ان يحذر كل الحذر من أن يصبح يُعرف بين الناس بالزهد والتقوى حيث أن عليه ألا يتجاوز حدود الواجبات في المظاهر العامة حتى لا تكون عبادته أداة لدخوله في عقر جهنم ولعل هذا كان من جملة الأسباب التي دعت إلى أن تكون النوافل والمستحبات في غياهب الظلمات ليلا بعيدة عن منظار العامة وألا تكون المستحبات جماعة كما وأنه قد ورد التحذير من الذين يشار إليهم بالبنان بأنهم أهل الزهد والتقوى لأن مثل هذا الزهد قد يكون حاصلا حتى من الجاهلين الذين يقضون اليوم بتلاوة القرآن وكثرة الصيام والصلاة وهم لا يُحكمون من القرآن آيتين وأنهم ليسوا من أهل معرفة الحق في مقابل الباطل ولا هم من الذين مع العدل ضد الظلم فقد تراه يعيش نسكا بما يعتقد ولكنه من مصاديق قول الرسول (ص) الساكت عن الحق شيطان أخرس ولعل إبليس من بعد هذه العبادة الطويلة التي أصبحت عملا لا يدفع الى كمال و قرب صار يرى لنفسه فضلا على ربه في حين أن طالب الكمال بالعبادة يزداد بها تواضعا ولمسا للفقر يأخذ به للسير نحو الكمال ولكن الذي يبدو من إبليس من بعدما اصيب بالكبر أنه كان يرى لنفسه فضلا على الله ولذا إندفع الى الطغيان حينما اعتقد أن جهده الجهيد ما قدر له كما كان ينبغي أن يقدر.
كما و أن من المحتمل أنه كان يقوم بتلك العبادات من بعد ما أصيب بالكبر لغاية كان يرجو الوصول إليها كبعض من يبذل الجهد في طلب العلوم الدينية ليصبح بها زعيما فإذا لم ينل ذلك المقام يصبح يرى الناس غير عارفين لمقامه وأنه كيف لم يحقق له ذلك وما ذاك إلا لأنه سهر الليالي ليصبح للناس إماما حينما أصبح العلم عنده مدعاة للكبر لا التواضع لأن من عاش المعرفة وواقع العبودية شاهد نور الحق فكان هو المطلوب عنده لا الزعامات لكن من درس للزعامة يصبح بمرور الأيام يزداد بالعلم كبرا ونهمة بدلا من أن يكون العلم نورا لشهود الحق والعيش في المحضر الربوبي.
هذا وغيره من المحتملات بعض ما يمكن الوقوف عنده بالنسبة الى أبليس والسالكين مسالكه كما وأن التأمل بالمناشيء وإختلاف الغايات لمحب الله تعالى والتوسع في ذلك قد يأخذ بنا الى الخروج بعيدا عن تفسير سورة الحمد لكن أحببت الإشارة في المقام الى هذه المحتملات رغبة مني أن تكون مدعاة لتأملات من قبل القراء الكرام, وفقنا الله وإياكم الى الصواب وابعدنا عن مزالق الشياطين والحمدلله رب العالمين .
0 تعليق