بحث فی العدل الإلهي
بقلم هدى محمد كاظم الخاقاني
—————————-
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمدلله على نعمائه و له الشكر ملء أرضه و سماءه و الصلاة و السلام على محمد أشرف أنبياءه و آله الكرام.
و أما بعد ، فالعدل الإلهي من أهم الصفات الفعلية لله سبحانه و تعالى و هو و إن لم يكن أصلا مستقلا بذاته لكن لأهميته و شموله لأكثر من صفة لارتباطه بالنبوة و الإمامة و المعاد و الفعل الإلهي مطلقا و الوعد و الوعيد و الجزاء و العقاب جعله العدلية من الشيعة و المعتزلة من الأصول العقائدية للشرع الإسلامي و اعتبره الشيعة أحد الأصول للمذهب و إذا أردنا أن نعرف محل العدل من صفات الله تعالى فعلينا أن ننظر إلى تقسيم الصفات ، حيث قسمها الأعلام إلى قسمين:
1-الصفات الجمالية: و هي ما يتجمل بها الحق سبحانه و تعالى و تسمى بالصفات الكمالية و الثبوتية أيضا مثل العلي و الحميد و المجيد.
2-الصفات الجلالية: و هي ما يتنزه الحق و يجل لأنها من شأن النقص و القصور و الإمكان و تسمى بالصفات السلبية أيضا مثل أنه تعالى ليس بظالم و ليس بمحدود.
و بلحاظ آخر فإن الصفات الجمالية و الثبوتية هي بنفسها أيضا تنقسم إلى قسمين :
1* ثبوتية ذاتية 2*ثبوتية فعلية ، و قد عرّف الفلاسفة الصفات الثوتية الذاتية و الفعلية بما يلي :و هو أن الصفة لو كانت الذات الإلهية كافية لانتزاعها و حملها على الذات فإنها تسمى ذاتية مثل الله حي و عالم و لكن إذا لم تكن الذات كافية لحمل الصفة عليها فإنها تسمى فعل مثل الرازق حيث أنه يحتاج إلى مرزوق و الخالق يحتاج إلى مخلوق ، و عرفهما الكليني بأن كل صفة إتصف بها الحق تعالى على الدوام و إستحال أن يتصف بمقابلها فهي صفة ذات كالعلم في مقابل الجهل ، لكن كل صفة إتصف بها الحق و إتصف بمقابلها فهي صفة فعل مثل رزق الله زيدا و لم يرزق عمرا.
و بتعبير آخر يمكن أن نعرف كل من الصفات الذاتية و الفعلية بما يلي و هو أن الصفات الذاتية هي الصفات التي يكفي صرف الذات لثبوتها مع غض النظر عن المخلوقات لاتصاف الذات بها كالحياة و القدرة و العلم فإن الذات تتصف بهذه الأوصاف دائما و أبدا و تميز بأنها لا يمكن أن يقال في حقها أنها تكون اليوم في حق شيء و لا تكون له غدا فالله سبحانه و تعالى عالم بكل شيء و قادر على كل شيء و لا يقال أنه قادر على زيد دون عمرو فالصفات الثبوتية ترجع إلى الكمال و السلبية ترجع إلى النقص و أما صفات الفعل فهي بلحاظ المخلوق فإنه يقال له تعالى خالق بالنظر إلى المخلوق و عليه فيمكن أن يقال أنه خلق كذا و لم يخلق كذا لعدم المصلحة و الحكمة و كذا الرازقية.
و من ثم نستنتج بأن صفة العدل ما دامت من الصفات التي يتصف الحق تعالى بها على الدوام فهي من الصفات الثبوتية الذاتية فيقال أن الحق تعالى عدل بذاته و قد تلحظ بلحاظ المخلوقات و قيامها بعدل الحق تعالى فتكون لحاظا فعليا ساريا في كل مخلوق فيكون العدل الفعلي تجليا و ظهورا لجمال العدل الذاتي الإلهي للأسماء و الصفات بنظرة فلسفية عرفانية دقيقة.
الفصل الأول :في تعريف العدل
العدل يعرف بطريقتين :
1- لغويا 2- علميا ، أما لغويا فعرف بتعاريف كثيرة:
1: عُرف في كتاب العين بأنه[ المرضي من الناس قوله و حكمه]و العدل [أن تعدل الشيء عن وجهه فتميله]
2: عرف في كتاب التعريفات بأنه [مصدر بمعنى العدالة و هو الإعتدال و الإستقامة و هو الميل إلى الحق سبحانه و تعالى ] لقوله تعالى (إعدلوا هو أقرب للتقوى)المائدة.
3: أما في الحدود الأنيقة فقد عرف العدل بأنه [مصدر بمعنى العدالة و هي الإعتدال و الثبات على الحق].
4:و عرف في الصحاح بأنه [ ضد الجور ]
5:و في القاموس المحيط بأن [ العدل ضد الجور و ما قام في النفوس أنه مستقيم]
6: و أما لسان العرب فله مجمومة من التعاريف بالنسبة لكلمة العدل فقال العدل أحيانا يأتي بمعنى الفدية لقوله تعالى [ لا يقبل منها عدل]أي لا يقبل منها فدية و أحيانا بمعنى الإشراك لقوله [ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون] أي يشركون و له معنى ثالث لقوله تعالى [ و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم] و له معنى رابع و هو المساواة لقولك فلان يعدل فلانا أي يساويه ، و هو عدّل الشيء أي وازنه و تعديل الشيء بمعنى تقويمه و أحيانا يأتي العدل بمعنى الإعوجاج.
7:و أما ابن الأعرابي فقال [ العدل بمعنى الاستقامة].
و قد عرّف العدل علميا و بحسب المصطلح بأكثر من تعريف أيضاً:
1: عرف المقداد السيوري في شرح الباب حادي عشر العدل بقوله [هو تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح و الإخلال بالواجب]
2: و عرف الحليمي في كتاب الأسماء و الصفات للبيهقي العدل بقوله [ العدل معناه أن الله لا يحكم إلا بالحق و لا يقول إلا الحق و لا يفعل إلا الحق]
3:و قد عرف المحقق اللاهيجاني العدل الإلهي في كتابه سرماية الإيمان ص57 بكذا [ المراد من العدل هو إتصاف كل حسن و جميل إلى ذات واجب الوجود و تنزهه عن كل ظلم و قبيح فإذا كان التوحيد هو كمال الحق في ذاته و صفاته فالعدل هو كمال الحق في أفعاله .
و توجد هناك تعاريف كثيرة أخر للعدل الإلهي كلها ترمز و تعود بالمآل إلى نفس ما تقدم من المعاني و لذا ما وجدت ما يدعو إلى ذكرها و اكتفيت في المقام بثلاثة أمثلة فقط و الآن بعد هذه التعاريف يجد الباحث أن لصفة العدل معان كثيرة لشمولها لأكثر من موضوع لكن المعنى و الموضوع الذي نحن نريد شرحه و الغوص فيه هو العدل الإلهي أي تنزيه الباري عن كل جور و عن كل ظلم و عن كل قبيح و أنه تعالى يوازن صفاته فلا تتغلب صفة من صفاته على صفة أخرى فالله سبحانه و تعالى لا يفعل و لا يقول شيئا و كذا لا يحكم بشيء إلا يكون ذلك الشيء عدلا و حقاً.
الفصل الثاني
في إرتباط العدل الإلهي بالتوحيد و المعاد و النبوة
من أهم مميزات العدل أنه يرتبط بأكثر من موضوع 1: التوحيد 2:المعاد 3:النبوة
1- التوحيد : يرتبط العدل بالتوحيد من جهة النظم الدقيق الموجود في الكون فالله سبحانه و تعالى بعدالته و وضعه كل شيء في مكانه المناسب قد حقق نظما و سيطرة على الأرض بل و هذه السيطرة و هذا النظم عم الكون كله بنفس المشيئة الإلهية و لو كان الخالق للممكنات إلهين لرأينا في الكون إثنينية و فسادا و عدم تدبير ، و عليه فنقول : إن التوحيد يدل على العدالة العدالة تدل على التوحيد و هناك آية تؤكد ما نقوله و هي قوله تعالى [ شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ] آل عمران18 بل نقول أكثر من ذلك فإن لله سبحانه و تعالى أسماء و صفات كثيرة و من صفاته عزوجل أنه عدل و صفة العدل من صفاته الذاتية و هذا يدل على أن في كل صفاته أيضا توازن و تعادل أي ليس الله فقط عادلا في خلق بل هو عدل في نفسه و أسماءه و صفاته و ذلك لوضوح أن فاقد الشيء لا يعطيه و هذا النظام السائد المتقن ليس فقط دالا على إله واحد بل هو دال على إله واحد عدل في نفسه و صفاته قبل أن يوصف بالعدل في أفعاله و نفهم ذلك من توازنه و وضعه كل شيء في مكانه المناسب و عدم ظلمه الآخرين فهو كما أنه عالم كذلك هو قادر و كما أنه رؤوف كذلك هو منتقم لكن كل صفة من صفاته هي في مكانها المناسب تكون عدلاً.
2- المعاد: يرتبط العدل بمسألة المعاد أيضا بدليلين أما الدليل الأول : فهو أن الذي يكون قادرا على أن يخلق الكون و ينظمه بهذه الدقة لأول مرة حين إبداعه و إنشاءه و إخراجه من كتم العدم هو بنفسه أيضا قادر على أن يجدده في المعاد و بالأحرى أن يقال أنه قادر على أن يخلق أحسن و أكبر و أبدع من الخلق للنشأة الأولى في الآخرة و المعاد و ذلك بحكم قانون التكامل و الحركة نحو الغاية.
و أما الدليل الثاني :فهو أن كثيرا من الناس لا يصلون إلى نتائج أعمالهم في الدنيا من الخير و الشر ، و العدل الإلهي يقتضي الوصول إلى ذلك في المعاد و يؤكد الدليل الثاني قوله تعالى [ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط و الذين كفروا لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون] و هناك آيات تؤكد على العدالة في الآخرة أيضا مثل قوله تعالى [ و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين ] و قوله تعالى [ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها و هم لا يظلمون ].
3-النبوة :تعتبر النبوة لطفا من الله سبحانه و تعالى و إذا كانت النبوة لطفا إلهيا فنستطيع أن نلحظ إرتباطها مع العدل الإلهي بلحاظات مختلفة:
الأول _أن نقل الكون مملوء بالحقائق و العلوم الكثيرة و لأن الله تعالى علمه و فيضه لا متناه فقد خلق أشياء كثيرة لا تحصى و لا تعد و إن كل شيء في العالم له ما يناسبه من العلم الموصل إليه سواء في ذلك المجرات و الأفلاك بما تحتوي من النجوم التي نحتاج لفهمها إلى علم الفلك و كذا بالنسبة لخلق الحشرات و ما فيها من عجيب الصنع و كذا التراب و ما يتكون منه و ما يخرج بواسطته من عظيم الخلق ، كما نحتاج أيضا لفهمه إلى علم الفيزياء و نحتاج لفهم كثير من الأشياء إلى علم الكيمياء و نحتاج لصحتنا إلى معرفة علم الطب و هكذا ….، و لذا كان الله تعالى لطيفا بالعباد فمن غير الممكن أن يترك الناس سدى فيحتاج الإنسان إلى منهج للحياة من أجل الوصول إلى كل كمال و الإبتعاد عن كل جهل و ظلامة ، و قد أخذ الله سبحانه و تعالى على نفسه رحمة و لطفا بحال العباد أن يحقق لهم كلما يقربهم من الرشد و الصلاح و الطاعة و كذا ما يبعدهم عن الضلالة و الجهل فهو اللطيف بعباده فقد أرسل إليهم رسولا شارحا للحقائق و أنزل القرآن على قلب الرسول الأعظم ، و تقول الروايات بأن للقرآن الكريم سبعا و سبعين بطنا و النبي (ص) و أهل بيته الكرام هم الشراح لهذه البطون و قد تكلموا مع الناس على قدر عقولهم فأعطوا كل إنسان بقدر عقله و إستعداده و دركه للأمور قسما و جزءا من هذه البطون السبع و السبعين و هذا اللطف المقرب للطاعات و المبعد عن المعاصي هو من مظاهر عدل الله تعالى و رحمته بحال العباد.
الثاني _ أنه لا يكفي فقط شرح العلوم اللامتناهية للبشر و وضع منهج متكامل للإنسانية بل يحتاج الإنسان إلى حكومة إسلامية عادلة تطبّق جميع موازيين العدالة و تعطي كل ذي حق حقه و تكون أسوة و مثالا للعدالة على وجه الأرض و حجة على الأولين و الآخرين و تبين طرق الوصول إلى هذه العدالة السليمة و الشاملة دون أن يُظلم فيها حتى طفل صغير و تكون مبنية على أسس صحيحة و قوية.
و لابد من الإلتفات إلى أمر في المقام و هو أنه لا ينبغي التصور بأن العدالة ترادف التساوي فربما كان التساوي ظلما بدلا من أن يكون عدلا و من باب التقريب الذهني نضرب مثالا: لو خاطب الرسول الأعظم جميع أفراد أمته و أفاض عليهم من الكنز الربوبي بشكل متساوٍ لكان ظلما في حق بعضهم و ذلك لأنه يوجد في أفراد الأمة أشخاص بقابلية عشرين بالمائة لمعرفة حقائق الأمور فقط و يوجد أشخاص آخرون بقابلية تسعين بالمائة أو أكثر من ذلك فلو خاطب الرسول (ص) عليا عليه السلام و فلاحا قد عاش عمره كله في المزرعة دون معرفة للقراءة و الكتابة و كذا خاطب بدويا بعيدا عن كل الحضارات بخطاب واحد لكان ظلما في حقهم مخالفا للعدل ، فالتساوي إذن قد يكون خروجا عن موازين الاعتدال و ليس تطبيقا للعدالة.
كما و أنه لو جئنا بالعدل بمعنى التساوي لنعطي حقوقا متساوية بمنهج واحد يطبق على كل من المرأة و الرجل بدون ملاحظة خصوصيات كلٍ منهما بواقعه الوجودي أيضا نكون قد خرجنا من الإعتدال الحقيقي، فإذن العدل هو إيصال كل ذي حق حقه بما يناسب واقعه و ليس حكما بالتساوي في كل المواطن و المجالات.
الثالث: و هو أن ننظر إلى الرسول الأعظم و هو المجلى الأتم الجامع لكل مظاهر الأسماء و الصفات الإلهية فهو الآية الكبرى التي تكون ظهورا لجميع الأسماء و الصفات لأن الله تعالى ظهر بأسمائه و صفاته في كل عالم الإمكان فلو نظرنا إلى أصغر مخلوق لوجدنا فيه تجليات الحق تعالى من كونه مخلوقا يدل على خالق و مرزوقا يدل على رازق و حادثا يدل على قديم و مدبرا يدل على مدبر و هكذا …الخ ، فإذا كان أصغر مخلوق يحمل ما يحمل من الدلائل و الآيات الحاكية عن الأسماء و الصفات الإلهية فلابد و أن يكون أجل مخلوق و هو الرسول الأعظم المرآة التي تتلألأ فيها جميع الأسماء و الصفات و المظاهر الربوبية فالحقيقة المحمدية هي الآية الجامعة لشتات عالم الإمكان من مرتبة عالم النور إلى مرتبة عالم العقل إلى مرتبة عالم البرزخ و عالم الطبيعة و الشهادة فهو الكون الجامع لجميع تجليات الإلهية و هو ميزان عدلها الذي كان و لا يزال توازنا لجميع العوالم طراً.
فإذن النبوة و على رأسها سيد الكائنات محمد (ص) الذي هو ميزان عدل عالم الإمكان لم يكن مع عظيم شأنه و شهوده لكافة العوالم غافلا عن أدنى العوالم و هو عالم الطبيعة و المادة فكان أباً و زوجاً و جندياً و قائداً يعيش مع عظماء الخلق يتناغم معهم نبرات الوحي كعلي (ع) و هو يتماشى مع نمط آخر من أوتاد الأرض من أعاظم المؤمنين و إذ به على جلالة قدره يعيش ميزان إعتدال بما يناسب دار الإختيار و الإختبار و يعاشر المنافقين و المرائين و الماكرين و الجهال حتى بلغ به الأمر من عظيم خلقه الكريم أن قال في شأنه الجاهلون أنه أذن فلم تخرجه شطحات الجاهلين و لا بغي الماكرين عن الإتزان و واقع الإعتدال ليكون مثالا جامعا لاعتدال الأكوان كلها بدون أن تطغى عليه بعض المراتب أو الجوانب من عالم دون عالم و لأجل التقريب الذهني نضرب مثالا في المقام فنقول لو أن أحدا منا أخذ الله به إلى مرتبة عالم الجنان بما فيه من القصور و النعيم و الحور الحسان لكان العيش بعد ذلك في دار الدنيا نكداً صعبا و هو (ص) قد تجاوز عالم القصور و الجنان و شاهد الجمال الربوبي في بحار أنوار الصقع الإلهي لواقع الأنوار الإلهية و عاد بعد ليلة المعراج يحمل كل الإتزان لم يكن متأثراً بعالم من العوالم بل و لا بحجاب من الحجب النورية الإلهية فقط حتى يصاب الغفلة عن مرتبة من مراتب عالم الإمكان و لو عن أنزل العوالم فهو الحافظ لموازين العدل لقوسي الصعود و النزول في عالم الإمكان فلم تتغير خطاه في إحياء البشرية من بعد ليلة المعراج فراح يساير أهل الدنيا و كأنه لم يترك وراءه عوالم النور و العقل و الجنان فهكذا وجود يكون معجزة عالم الإمكان لتوازن العوالم في وحدته فالنبوة إذاً إضافة على مرتبة التشريع و التطبيق هي البعد المعرفي العظيم الجامع لشتات عالم الإمكان بمنظار العارفين ، فمحمد(ص) في أعين العارفين هو المرآة التي تتلألأ فيها الأنوار الربوبية بما للأسماء و الصفات من العدل المتحقق بمجلاه الأتم في عالم الإمكان و هو واقع الحقيقة المحمدية ، فكان علي عليه السلام و الأوتاد من المؤمنين يرون في محمد (ص) جميع الأسماء و الصفات الإلهية متجلية و يرى في محمد قوم آخرون أخلدوا إلى الأرض سلطانا و حاكما أرضيا فراحوا يتنازعونه في السقيفة حطام الدنيا حيث يقول قائلهم من ينازعنا سلطان محمد و كأنه يتكلم عن رئيس قبيلة قريش.
فإذن هكذا يختلف شهود العارفين على إختلاف منظارهم حينما ينظرون إلى معجزة عالم الإمكان محمد (ص) فكلّ يرى في جامع شتات عالم الإمكان ما ينطوي في باطنه من الفهم و الشعور لهذه الكلمة التامة الإلهية الجامعة في مرتبة الفعل و هو عالم الإمكان ما هو في نفسه من الدرك لهذه الحقيقة الحاكية لمبلغ علمه و حد وجوده.
فإذن برسول الله(ص) و كونه تحقق عدل العوالم و إتزانها بدون حيف لعالم على عالم و سيبقى الرسول (ص) القائد للكمال لكل العوالم المختلفة، كلّ ينظر فيه ضالته المنشودة من أجل مشاهدة الأنوار الربوبية سواءً في عالم البرزخ أو عالم التجرد و سواءً في ذلك أيضا عالم النور لمن كان أهلا أن يرى محمدا مظهرا لتجليات الأنوار الربوبية في بحور عالم النور و الكنز اللدني الإلهي.
لقد أشكل البعض على أنه كيف نقول بأن الله عادل و نحن نرى كل هذا الظلم و البلاء و المصائب في الأرض ؟
لكن قبل أن نجيب على هذه التسائلات علينا أن نأتي بمقدمات لإيضاح الأمر فنقول : أن الظلم له أنواع :
النوع الأول ظلم الشخص لنفسه كانطباعه بطبائع غير سليمة مثل الكذب و غير ذلك فمن يبتلي بهذه الصفات و لا يردع نفسه عنها سيكون بالواقع ظالما لنفسه و في القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى ظلم الإنسان لنفسه مثل قوله تعالى :[ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل]البقرة 54
[ فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض و منهم من أغرقنا و ما كان الله ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون]العنكبوت 40
و هناك آيات في القرآن الكريم تعدد أنواعا من الظلم على النفس مثل:
[و من أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها إسمه و سعى في خرابها]البقرة114 [و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله و ما الله بغافل عما تعملون]البقرة140 [ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون]البقرة 229
[و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا و من يفعل ذلك قد ظلم نفسه]البقرة 231
*فنستنتج بأنه ليس هذا النوع من الظلم من الله سبحانه و تعالى بل هو من عند الإنسان على نفسه.
النوع الثاني هو ظلم الإنسان لغيره كضرب الناس و قتلهم و أخذ أموالهم بالقوة و هذا النوع أيضا ليس من عند الله بل هو لضعف نفوس بعض الأشخاص و دنائتها كما تقول الآية الكريمة[إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا]
النوع الثالث ظلم الإنسان لربه كما تشرح الآية الكريمة هذا النوع من الظلم بقولها [فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاولئك هم الظالمون]آل عمران94
*فنستنتج أن الظلم الذي يجري في العالم إذا كان لا يخلوا من هذه الثلاث فإنه ليس من عند الله سبحانه لأن الله عزوجل ليس بظلام للعبيد و لأنه سبحانه و تعالى لا يريد ظلما للعالمين.
و أما البلايا و المصائب على الأرض فهي أيضا تنقسم إلى أقسام:
1- المصائب التي يأتي الشخص بها على نفسه كالإعتياد على المخدرات و الكحول و التلبس بطبائع تسبب له الوقوع في المصائب و الشاهد على ذلك هو قوله تعالى [ و ما ظلمناهم و لكن ظلموا أنفسهم]الهود 101
2- المصائب التي ينزلها الله على البشر لكثرة طغيانهم أو لكثرة الفسق و الفجور و الإجرام الذي يفعله الإنسان على الأرض و هناك آيات تشير إلى هذا المعنى كالآيات التي تحكي عن غرق فرعون أو قتل أبرهة أو آيات مثل [فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون]البقرة59
و آيات مثل [فأخذتهم الصاعقة بظلمهم]النساء153
3- المصائب التي ينزلها الله على بعض البشر لكي يتراجعوا من الظلم و يرجعوا لله الواحد القهار و هناك آيات من القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى مثل :[و لنذيقنهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون]الروم41
4-المصائب التي تنزل على عدد من الناس حتى يختبرهم الله في الإيمان و الصبر و لكي يعطيهم أجرهم مرتين و تشير إلى هذا المعنى الآية الكريمة [ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون *أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون].
5-المصائب التي تنزل على الإنسان من ظلم الآخرين عليه كما شرحنا ذلك في أكل أموال اليتيم.
و بعد شرح كل هذه المقدمات نستطيع أن نستنتج أن الظلم و المصائب الواقعة إما هي ليست من عند الله تعالى بل هي لتمايلات و أغراض سيئة في نفس الإنسان يطبقها على نفسه أو على الآخرين و إما هي تنزل من عند الله تعالى على الشخص لطغيانه و فسقه على الأرض و إما لكي يختبره الله تعالى لإعطاء الجزاء له أو لتردع الشخص عن خطئه و جرائمه رحمة بحاله.
الفصل الثالث
في الآيات و الروايات الواردة في القرآن الكريم
عن العدل الإلهي
الآيات الواردة عن العدل الإلهي في القرآن الكريم على قسمين :
1-العدل الإلهي في دار الدنيا، فلكل إنسان حقوق في دار الدنيا خاصة به كالنفس و المال و العرض و الأهل و كثير من الأشياء الأخر التي إذا أخذها شخص ثان سيعاقب عليها فمثلا لو كان لزيد قلم و أخذه عمرو فعلى عمرو أن يرد القلم و إلا أخذه الشارع منه بالقوة و إذا تلف القلم عنده فعليه أن يأتي لزيد بقلم ثان أو يعطيه ثمن المال و هكذا في بقية الأموال لكن لو تعدى عمروا على عرض زيد فسيعاقب عمرو لفعلته حسب ما يقرره الشرع عليه و هنا تأتي الآية الكريمة و تشرح نوعا من أنواع التعدي على الآخرين بقولها:
[السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز حكيم]المائدة38فهنا الآية تشرح بأنه لو أخذ أحد أموال شخص آخر دون إذنه و من باب السرقة فستقطع أصابعه كان ذكراً أو أنثى و كون المراد من اليد هي الأصابع فقط فذلك حسب أقوال الشارحين للقرآن الكريم لأدلة شرعية دلت على ذلك.
و هناك بعض الأمور يفعلها الإنسان يستحق جزائها في دار الدنيا مثلا الإنسان أحيانا عندما يكون محسنا يستحق بعض الخير كما يقول الله في كتابه الكريم :[و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلاً هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين] و يقول عزوجل أيضاً[و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين]يوسف22
و أحيانا عندما يفعل الإنسان شيئاً و معصية أو يكفر بالله مع وجود نبي قد هداه و أنذره فسوف يستحق عذابا من الله بالكيفية التي يعينها سبحانه و تعالى كما تشرح ذلك الآية الكريمة بقولها :[ إن الذين إتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا و كذلك نجزي المفترين]الأعراف152
و بالتأكيد أن العقاب الذي ينزله الله تعالى على البشر إنما هو بحث و لا يكون ظلما و ذلك لأن الله لا يظلم أحدا لأن للظلم مناشيء تستدعيه و من هذه المناشيء التي هي بعيدة عن الله نذكر ما يلي :
المنشأ الأول الجهل و هو كأن يظلم الظالم شخصا لجهله بحقائق الأمور و ليس بقصد الظلم و هذا مستحيل على الله لأن الله عالم بما كان و ما يكون فكيف يكون جاهلا و هذا النوع واضح البطلان بالنسبة إلى الله تعالى .
المنشأ الثاني الحاجة ، أحيانا يكون الشخص محتاجا لشيء و هذا بيد الآخرين فهو للحصول على ذلك المراد يظلم الشخص الثاني و هذا أيضا مستحيل على الله لأنه رزاق وهاب و هو الفياض الكريم فكيف يكون محتاجاً.
المنشأ الثالث عدم القدرة على أداء حقوق الآخرين حيث يكون الشخص عاجزا عن أداء حق للآخرين في ذمته فلا يتمكن من إيصال الحق إلى أهله و هذا النحو من الظلم ناشيء عن عدم الإستطاعة لبداهة بطلانه بالنسبة إلى ساحة قدسه تعالى لأنه الواجب الغني المطلق الفياض الجواد الذي لا يحتاج إلى دليل في رده.
المنشأ الرابع الأنانية و الدناءة الداخلية التي تسبب أن يريد الشخص كل شيء لنفسه فينتقم من الآخرين و هذه الصفات كلها كما نرى لا يدعيها أحد في وجود الله فهو المتعال عن جميع الأخطاء و هو المنزه عن جميع الأنانيات و الدناءات و الحسد و مناشيء القصور الذاتي أو العرضي.
2-و أما النوع الثاني من العدل فهو العدل الإلهي في الآخرة و هو أن يصل الإنسان إلى جزاء أعماله في الآخرة من الخير و الشر فهو بمقتضى عدله من المستحيل أن لا يعطي ذي الحق حقه كما يشرح القرآن الكريم ذلك بآيات متعددة مثل:
*[و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا]النساء124
*[جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين]النحل 31
*[ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم تكسبون]يونس52
*[من عمل صالحا من ذكر أو انثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون]النحل 97
و هناك آيات تنفي الظلم عن الله سبحانه و تعالى في الدنيا و الآخرة مثل:
*[ إن الله ليس بظلام للعبيد]آل عمران 182
*[وما الله يريد ظلما للعالمين ]آل عمران 108
*[فأخذتهم الصاعقة بظلمهم]النساء 153
**********************************
الروايات الواردة عن العدل الإلهي:
1-الروايات إما واردة في مدح العدل و توصيفه مثل ما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في عبارات كثيرة [العدل خير الحكم] و [العدل أقوى أساس]و [العدل رأس الإيمان و جماع الإحسان] و [ إجعل الدين كهفك و العدل سيفك تنج من كل سوء و تظفر على كل عدو] و [ العدل يصلح البرية] و [ العدل أفضل سجية]المستدرك ج11 ص318
و هناك عبارة للرسول(ص) أيضا في هذا المجال أنه قال [ العدل ميزان الله في الأرض فمن أخذه قاده إلى الجنة و من تركه ساقه إلى النار] المستدرك ج 11 ص 317و قال أبو عبدالله (ع):[ العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن ما أوسع العدل إذا عدل فيه و إن قلّ] و قال أيضا (ع) :[ العدل أحلى من الشهد و ألين من الزبد و أطيب ريحا من المسك] الكافي ج 2 ص 146-146
2- أو قائلة و شارحة للعدل الإلهي مثل ما ورد عن أبي عبدالله (ع) أنه قال :[ إن الله أجل و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل ]الكافي ج1 ص178
أو ما ورد عن أبي عبدالله أنه قال :[ إن الله تبارك و تعالى عدل يأخذ للمظلوم من الظالم ]الكافي ج2 ص 344
و هناك قول عن الإمام السجاد أنه قال :[ إن الله عدل يأخذ للضعيف من القوي ]الكافي ج 4 ص 257
سئل الإمام علي (ع) عن التوحيد و العدل فقال :[ التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه] و قال ابن أبي الحديد شارحا لعبارة الإمام علي (ع) هذان ركنان هما ركنا علم الكلام و هما شعار أصحابنا المعتزلة لنفهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري و أصحابه و لتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح و معنى قوله أن لا تتوهمه أن لا تتوهمه جسما أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئا لكل الجهات كما ذهب إليه قوم أو نوراً من الأنوار أو قوة سارية في جميع العالم كما قاله قوم أو من جنس الأعراض التي تحل المحل و ليس بعرض كما قاله الأنصاري أو تحله المعاني و الأعراض فمتى توهم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد ، و أما الركن الثاني فهو أن لا تتهمه أي أن لا تتهمه في أنه أجبرك على القبيح و يعاقبك عليه و حاشاه من ذلك و لا تتهمه في أنه مكّن الكذابين من المعجزات فأضلّ بهم الناس و لا تتهمه في أنه كلفك ما لا تطيقه و غير ذلك من مسائل العدل التي تذكرها أصحابنا مفصلة في كتبهم كالعوض عن الألم فإنه لابد منه و الثواب على فعل الواجب فإنه لابد منه و صدق وعده و وعيده فإنه لابد منه.شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 20 ص227
و روي عن الصدوق عن الصادق (ع) أن رجلا قال له إن أساس الدين التوحيد و العدل و علمه كثير و لابد لعاقل منه فأذكر ما يسهل الوقوف عليه و يتهيأ حفظه فقال عليه السلام :[ أما التوحيد فأن لا تجوز على ربك ما جاز عليك و أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه] التوحيد باب معنى التوحيد و العدل الحديث الأول ص 96
و قال علي (ع):[و أشهد أنه عدل عدل و حكم فضل] نهجج البلاغة الخطبة 214
و قال عليه السلام [ الذي صدق ي ميعاده و إرتفع عن ظلم عباده و قام بالقسط في خلقه و عدل عليهم في حكمه ]نهج البلاغة الخطبة 185
و قال عليه السلام [ الذي أعطى حلمه فعضى و عدل في كل ما قضى]الخطبة 191
و قال عليه السلام[اللهم إحملني على عفوك و لا تحملني على عدلكٍ]الخطبة 227
3- الروايات التي تضع العدل من جزء أهم صفات المؤمن مثل :
قال علي بن الحسين (ع) عن الرسول (ص) أنه قال :[ ثلاث منجيات : خوف الله في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الغنى و الفقر …]وسائل الشيعة ج1ص105
عن علي (ع) أنه قال :[الإيمان على أربعة أركان الصبر و اليقين و العدل و الجهاد]المستدرك ج11ص 16
سُئل أمير المؤمنين عن الإيمان فقال (ع) [ إن الله عزوجل جعل الإيمان على أربع دعائم :على الصبر و اليقين و العدل و الجهاد…]الكافي ج2ص50
و بالأخير ننقل لكم رأي العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في نفي الظلم عن الله سبحانه و تعالى ص 324 ج15 حيث قال من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل و تصرفه ما لا يملكه من الفعل و التصرف و يقابله العدل و لازمه أنه فعل الفاعل و تصرفه ما يملكه و من هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكويناً مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه و لله سبحانه و تعالى ملك مطلق فبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير عنى عنه و إستقلال دونه فأي تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شيء و إن شئت فقل عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء و له أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.
فله تعالى ملك مطلق بذاته و لغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء و الموهبة الإلهية و هو ملك في طول ملكه تعالى و هو المالك لما ملكها و المهيمن على ما عليه سلطها .
و من جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله و خاصة ما نسميه بالأفعال الإختيارية و الإختيار الذي يتعين به هذه الأفعال فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الإختيار بمعنى إمكان الفعل و الترك معا فإن شاء فعل و إن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل و الترك أي فعل و ترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه، إلى أن يقول بأنه من الضروري أن ينتصب على المجتمع و القوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه و هو مسؤول عما نصب له و خاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء و قد دلت البراهين العقلية و أيدها تواتر الأنبياء و الرسل من قبله تعالى و هي أحكام و وظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية و تضمن سعادة حياته و تحفظ مصالح مجتمعه و هذه الشريعة السماوية الفطرة واضعها هو الله سبحانه و مجريها من حيث الثواب و العقاب و موطنها موطن الرجوع إليه تعالى و مقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية و إعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعياً و ليس بالتكويني أن لا يناقض نفسه و لا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند و أخذ المظلوم بإثم الظالم و إلا كان ظلما منه تعالى على ذلك علوا كبيرا و لعل هذا معنى ما يقال إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه عنه تعالى ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال و هو المستفاد من قوله تعالى [ و ما كنا ظالمين ] و قوله تعالى [ و ما ربك بظلام للعبيد] فظاهر الآيات أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومي إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالماً.كتاب الميزان ج15 الطبعة الثانية
الفصل الرابع
في أهمية العدل و سبب جعله من أصول الدين
*ما هو الدليل على وضع صفة العدل من أصول الدين؟
قد تسائل الكثيرون بأنه لماذا وضعت صفة العدل دون غيرها من الصفات بين الأصول الخمسة فله سبحانه و تعالى تسع و تسعون صفة فهو خالق و رازق و قدوس و بارء و بديع و …الخ، لماذا إختار العلماء فقط صفة العدل و وضعوها من جزء الأصول الخمسة للدين الإسلامي ؟
هناك دلائل مختلفة قد سببت الإهتمام بصفة العدل:
الدليل الأول : لو نظرنا إلى هذا العالم نظرة تأمل لرأينا صفات الله تعالى ظاهرة على كل موجود مهما كان صغيرا أو كبيرا فمن باب المثال صفة الرحمن و صفة الرحيم ظاهرتين على كل شيء لكن نرى في مقابلهما صفة المنتقم و الجبار أيضا من الصفات البارزة على وجه الكون و من هذا نستنتج أن للعالم توازنا غريبا و كما نعرف فإن معنى العدل هو الإتزان و وضع كل شيء في مكانه الأنسب فلو كان الله فقط رحمانا أو فقط رحيما و لم يكن جبارا منتقما لرأينا الفساد يحل على الأرض و كذا لو كان الله فقط جبارا منتقما و لم يكن رحيما لرأينا الظلم سائدا على الأرض و على الكون لكنه سبحانه و تعالى منزه عن النقص و العدل من صفاته الذاتية فهو كله عدل و ذاته كلها عدل فهو لا يحتاج إلى شيء حتى يطبق عليه العدالة حتى يقال له عادل بل هو عادل كان له ما يطبق عدالته عليه أو لم يكن فليس الله بظلام للعبيد و هو يقول عزوجل [ و لا يظلمون فتيلا] و من هذا كله نستنتج أن الصفات الإلهية مهما تنوعت و تعددت فهي كلها ذاتية كانت أو فعلية ترجع بالنتيجة و المآل إلى صفة العدل فلو لم يكن الله عادلا لزاد في بعض الصفات أو نقص في بعضها الآخر و لرأينا الظلم و الفساد على الكون و لرأينا عدم النظام و التدبير جاريا عليه و حيث أن الأرض متوازنة في الصفات نقول أن صفة العدل تشبه الكلي الذي ترجع إليه الجزئيات الكثيرة و العدل ما بين الصفات الإلهية كلي ترجع إليه باقي صفات الله تعالى من الفعلية و الذاتية.
الدليل الثاني :توقف التوحيد على العدل و العدل على التوحيد كما ذكرنا و توقف المعاد على العدل فلو لم يكن الله عادلا لما كان هناك معنى لوجود المعاد فلأنه عادل قال [و من يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره] فهو قد وضع المعاد على أعمدة و موازين صفة العدل .
و أيضا توقف النبوة على العدل فلو لم يكن الله عادلا لما أرسل إلينا رسولا يهدينا من الضلالة إلى الهدى و من الظلمة إلى النور و يكون شارحا للبطون السبع و السبعين للقرآن الكريم و لما أرسله أعلى درجة حتى من الملائكة المقربين كجبرائيل (ع) فالرسول الأعظم معجزة لم تأت لا قبلها و لا بعدها معجزة مثلها و أن تتكرر مثل هذه المعجزة مرة أخرى على وجه الأرض إلى قيام يوم القيامة بل و لا في عالم الإمكان فالرسول الأعظم المجلى الأتم و المظهر لوحدانية الحق تعالى .
الدليل الثالث: صفة العدل تقسم إلى قسمين::
1- العدالة الإلهية: العدالة الإلهية بنفسها تقسم إلى أقسام أ: العدالة في دار الدنيا ب: العدالة في عالم البرزخ ج: العدالة في عالم المثال و المجردات د:العدالة في يوم القيامة.
2- عدالة الإنسان على وجه الأرض لكن بأسس و موازين إلهية لأن الإنسان قاصر عن درك جميع الأشياء فيأخذ موازين العدالة من الله لأن الله عالم بما كان و ما يكون و عالم بما هو قبيح و ما هو حسن بالفعل و الواقع و عالم …الخ، و العدالة الإنسانية أيضا لها أقسام مثل أ:العدالة الإجتماعية و المدنية ب:العدالة القضائية ج:العدالة الإقتصادية د: العدالة السياسية و لكل قسم علم خاص به فلمعرفة طرق العدالة لأي واحد من هذه الأنواع علينا قراءة العلم المختص به .
الفصل الخامس
الحسن و القبح العقليين
هناك بحوث مرتبطة بالعدل الإلهي
منها :الحسن و القبح العقليان بدأت فكرة الحسن و القبح العقليين في فلسفة اليونان و لم تبدأ جذور هذه الفكرة من علماء المسلمين بل طورها و رتبها علمائنا بعد ظهور الإسلام فقد كانت مدرسة اليونان تقسم الفلسفة إلى قسمين:
1-البحث النظري
2-البحث العملي و كانت تقسم البحث العملي إلى ثلاثة أقسام :
أ:سياسة المدن ب:التدبير المنزلي ج: الأخلاق
و كان موضوع الحسن و القبح العقليين داخلا في بحث الأخلاق و لكن فلاسفة اليونان لم يكونوا جميعا معتقدين بالله أو كانوا يريدون طرح الأمور بما لها من الأسس العقلية و لهذا كانوا ينظمون جميع البحوث على حسب المقاييس العقلية و عندما ظهرت طلائع الإسلام أصبح موضوع الحسن و القبح العقليين من جزء مباحث علم الكلام التي بواسطتها نستطيع أن نصل إلى صفات الله و أفعاله فقد كانت هذه الفكرة عند علماء المسلمين تطويرا للفلسفة اليونانية لأنهم كانوا يستخدمون هذا الأصل للوصول إلى سلوك الإنسان و كماله و لهذا كانوا يقسمون الصفات إلى صفات حسنة و صفات قبيحة و بواسطة العقل يدرجون الصفات تحت هذين القسمين.
*موضوع الحسن و القبح العقليين من مواضيع علم الكلام التي لها أهمية كبرى عندهم فقد قسموا علم الكلام إلى قسمين :
1 التوحيد : و هو يعني إثبات الحق و أنه لا يعمل عبثاً.
2 العدل الإلهي: و هو أن الله تعالى لا يظلم عباده أبدا ثم يشرحون هذا العدل و يقولون بأن الظلم قبيح و لا يصدر القبيح من الحق لأن الله منزه عن الجهل ثم هنا يأتي دور العقل لكي يقضي بأن أي فعل هو قبيح و أي فعل هو حسن لكي ينسب الحسن إلى الله و ينزه الحق عن أي قبيح و لهذا جرى جدل عريق طيلة القرون في هذه المسألة فانقسم المسلمون إلى قسمين القسم الأول هم العدلية و القسم الثاني هم غير العدلية و أما المراد من العدلية هم المعتزلة و الإمامية الذين يعتقدون بأنه لا يصدر من الحق تعالى إلا ما طابق العدل و الحكمة.
وهناك وجهات نظر في المسألة من حيث الأفعال الصادرة من العباد
أ: منها ما يوصف بالحسن و القبح الذاتي : و هو ما يحكم العقل به حكما إستقلاليا بنحو العلة التامة و يراه من مصاديق الحسن أو القبح بلا أي ريب و لا تردد و من مصاديقه حسن العدل و قبح الظلم فإن كل مصداق للعدل من الأفعال حسن بحكم العقل و إن كل مصداق للظلم قبيح بحكم العقل حكما بنحو العلة التامة و ليس لأحد في مسألة الحسن و القبح الذاتيين كبرويا و لا صغرويا في مثل حسن العدل و قبح الظلم خلاف سوى ما ينسب إلى الأشاعرة المنكرين للحسن و القبح العقليين القائلين بأن الحسن ما حسّنه الشارع و القبيح ما قبّحه الشارع.
ب: و منها ما يوصف بالحسن و القبح الإقتضائي بمعنى أن يكون للفعل الصادر من الإنسان إقتضاء الحسن أو إقتضاء القبح و مثلوا لهما بالصدق و الكذب و المراد من الإقتضاء ما لم يكن علة تامة بل يكون له السببية التي لو حصلت على الشرط أو الشروط و ارتفع المانع أو الموانع لكان الفعل حسنا أو قبيحا كالنار التي لها إقتضاء الإحراق للحطب شريطة القرب منه و عدم المانع كالبلل و تطبيقا لما نحن بصدد بيانه نقول : أن الصدق مثلا و إن كان حسنا فإن حسنه بنحو المقتضى لا العلة التامة ، بمعنى أن الصدق لو أدى إلى الكشف مكان مؤمن فار من سلطة جائرة لما كان حسنا و كذا الكذب ما يكون حسنا كما لو أدى إلى إنقاذ حياة مؤمن من يد جائر أو أدى إلى إصلاح ذات البين بدون أن تترتب عليه مفاسد أخر و ربما يتغير مقتضى أعمال الإنسان بحسب القصد و العلة من العمل و إن كان العمل بنفسه خاليا من كل من الحسن و القبح و يكون تعنونه بأحدهما من جهة العارض فإذا كان الهدف من فعل حسنا سيكون هذا الفعل حسنا و إذا كان هدفه قبيحا سيكون هذا الفعل قبيحا فمثلا القيام قد يكون حسنا إذا كان تكريما لمؤمن و قد يكون قبيحا كما لو كان تكريما لجائر .
ج: الحسن و القبح التابع للمصالح و المفاسد : حيث يجزم كل مؤمن بأن الأحكام التابعة للمصالح و المفاسد و أن ما أمر به الله لابد و أن يكون ناشئا عن مصلحة و ما نهى عنه لابد و أن يكون ناشئا عن مفسدة و قد يدرك الإنسان ذلك بعقله في بعض المواطن إن أدرك الملاكات بنحو العلية التامة لا بنحو إستنباط العلة الظنية فيأتي ها هنا حديث الحسن و القبح أيضاً.
د: الحسن و القبح التابع لفطرة الإنسان : قال بهذا الرأي العلامة الطباطبائي و إعتبره أحسن الآراء و هو أن الفعل إذا طابق فطرة الإنسان و سريرته كان حسناً و إذا خالفها كان قبيحاً.
* أدلة القائلين بالحسن و القبح العقلي و مناقشتهما :
الدليل الأول _ قالوا بأن الحسن و القبح من الأمور البديهية التي يقر وجدان كل إنسان لها فكل شخص بوجدانه السليم يعرف و يقر بأن العدل حسن و الظلم قبيح و الإحسان حسن و الخيانة قبيحة و هكذا و لا يستطيع إنسان أن يقول بأن الوجدان يقر بحسن الخيانة أو بحسن الظلم و لكن قال بعض من الأشخاص بأن التربية الدينية التي صار لها قرون طويلة مسلطة على عقول البشر هي التي هدتهم إلى القول بحسن بعض الأمور و قبح بعضها الآخر و لكن هذا الكلام غير صحيح لأنه حتى الناس الذين يولدون من أبوين لا يعتقدان بوجود إله أيضا يقرون بحسن و قبح أمور كثيرة كما نقر نحن المسلمين بها و أيضا إذا قرأنا التأريخ على طيلة القرون عرفنا بأن الناس كلهم على إختلاف مذاهبهم و ثقافاتهم يقرون بحسن و قبح بعض الأمور و بالأخص مثل حسن العدل و قبح الظلم و يرون ذلك الإدراك العقلي هو الوجدان أو الفطرة البشرية أو أن هذه الأمور من المباديء الأخلاقية الثابتة التي لا ترجع إلى حضارة من الحضارات البشرية لتختلف باختلاف تلك الحضارات و هذه الأمور الأخلاقية المدركة قد يعبر عنها بالفضائل و الرذائل فالعقل الأخلاقي يرى حسن العدل و قبح الظلم أو كما عبر البعض عن هذه الأمور و هي الحسن و القبح العقليين بالآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافة و إنما وقع النزاع فيها صغرويا من أن الحسن أو القبح يتحقق بأي شيء و ما هي مثلا مصاديق العدل أو مصاديق الظلم ففي مثل هذه المواطن وقع الإختلاف بين الأمم تبعا لاختلاف مدركاتهم و حضاراتهم و تقاليدهم و مذاهبهم فربما رأى النصارى أو اليهود تحقيق العدالة بكيفية أو بأمر و لكن رأى المسلم ذلك ليس من محققات العدالة بل وجد فيه تحقيقا للظلم و هكذا ربما كان العلماني أو الشيوعي يرى تحقيق العدالة بنحو و مصداقية خاصة خلافا للمؤمنين الملتزمين بالعدل بمساره الديني تحت ضوابط قانون العدل الإلهي و إن كان لم نسمع خلافا في مسألة الحسن و القبح العقليين بنحو كبروي إلا من الأشاعرة.
قال المحقق الطوسي في تجريد الإعتقاد ص 235 طبعة بيروت[ هما عقليان : العلم بحسن الإحسان و قبح الظلم من غير شرع ] و هو يقصد بكلامه هذا بأن العقل بفطرته يدرك بأن بعض الأمور حسنة و بعض الأمور الأخرى قبيحة و في هذا الإدراك لا نحتاج إلى قول من الشارع و لو وردت الأدلة الشرعية في مواطن أدركها العقل لكانت إرشادا لما حكم به العقل أو أدركه.
و يقول العلامة الحلي في نهج الحق و كشف الصدق ج1 ص 366بأن الإمامية و المعتزلة يعتقدون بأن العقل يدرك بالبداهة حسن و قبح الأفعال ، مثلا العقل يدرك بالبداهة أن الصدق حسن و الكذب قبيح و إذا أحد أنكر هذه الأمور فهو كالسوفسطائيين الذين ينكرون كل شيء ثم يقول العلامة الحلي بأنه إذا ترى الإنسان في الأدغال و دون تربية أو معاشرة أي إنسان إذا نخيره بين الصدق و الكذب دون أن يكون أي ضرر متوجها إليه سيختار الصدق لأنه يدرك ذلك ببداهة عقله.
لكن يرد هذه الأقوال قوم من الأشاعرة المنكرين للحسن و القبح الذاتيين إنكارا كبرويا بإرجاع الأمور إلى الشرع و ربما كان ممن سلك مسالك الأشاعرة هو الفاضل القوشجي و إن أمكن حمل كلامه إلى نزاع صغروي في مواطن الحسن و القبح لا في أصل موضوع الحسن و القبح .
و في هذا نحن أيضا نقر من تحقق النزاع بين القائلين بالحسن و القبح في كثير من الصغريات و في أن أي فعل يستحق الإنسان عليه العقاب الدنيوي و أي فعل الإنسان يستحق عليه العقاب الأخروي و أي فعل يستحق عليه الجزاء و المدح الدنيوي و أي فعل يستحق عليه الثواب الأخروي.
و لكن كلام القوشجي ليس كاملا من جوانب متعددة إن كان يريد أن ينحى إلى منحى الأشاعرة :
أولا: أن العقل بفطرته يعلم في كثير من المواطن بنفسه بلا حاجة إلى الشرع بأنه أي فعل هو حسن و لهذا يستحق عليه الثواب و أي فعل قبيح و لهذا يستحق عليه العقاب و الذي ينكر هذه الأمور كأنه ينكر الأمور البديهية و سيكون كالسوفسطائيين في التفكير و يزيد على هذا الكلام العلامة الحلي في نفس الكتاب بقوله أن الإنسان عليه أن يتباحث و يتجادل مع شخص يقف عند البديهيات و لكن الأشاعرة ينكرون حتى البديهيات و لهذا لا فائدة من الجدال معهم .
ثانيا: عندما بدأ القوشجي يستدل على إنكار الحسن و القبح إعترف بأنه يقبل قول العقل بحسن بعض الأمور و قبح بعضها الآخر و هذا المقدار من الإعتراف يكفينا بأن نقول بأن الأشاعرة أو لا أقل الفاضل القوشجي يدركون بالواقع و الوجدان الحسن و القبح العقليين بنحو كبروي لكنهم لا يريدون التصريح بذلك و لو للمناعة في صغروية بعض مواطن الحسن و القبح العقليين.
ثالثا: فاضل القوشجي لخص القول في الحسن و القبح على درك الإنسان الثواب و العقاب و هذا البحث بالأصل غير وارد في بحث الحسن و القبح العقليين إلا بالتبع لهذا البحث لا بنحو الأصالة لأن أصل الكلام في حسن أو قبح بعض الأفعال في مواطن العقل العملي و من لوازم هذا الإدراك هو البحث عن الثواب و العقاب.
و بعد كل هذه المناقشات نعرف أن الحق مع العدلية و ليس مع الأشاعرة لأن دلائل الأشاعرة ضعيفة جدا .
الدليل الثاني قول المحقق الطوسي :[لانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعاً] هنا يأتي العلامة الحلي و يشرح كلام الشيخ الطوسي بقوله بأنه لو كان الحسن و القبح للأشياء يثبت فقط عن طريق الشرع لم يستطع الإنسان أن يميز أي شيء من القبح و الحسن و لا حتى قول الأنبياء و الأوصياء بأنه هل كلامهم صحيح أم أنهم كاذبون في دعواهم لأن الكذب لا يدرك العقل قبحه بناء على مسلك الأشاعرة.
لكن ما قيل في حق القوشجي من أنه سلك مسلك الأشاعرة لا يتناسب مع كلماته في بعض المواطن و يرده ما ورد حيث قال [إنه لو لم يثبت الحسن و القبح إلا بالشرع لم يثبتا أصلا لأن العلم بحسن ما أمر به الشارع أو أخبر عن حسنه و بقبح ما نهى عنه أو أخبر عن قبحه يتوقف على أن الكذب قبيح لا يصدر عنه و إن الأمر بالقبيح و النهي عن الحسن سفه عبث لا يليق به و ذلك إما بالعقل و التقدير إنه معزول لا حكم له و إما بالشرع فيدور]شرح التجريدص239
فطرف الإثبات للحسن و القبح أحد أمرين و هما يجريان على مسلك الأشاعرة :
1- العقل هو هذا مسدود لأن الأشاعرة سدوا على أنفسهم هذا الباب
2- أن يحكم الشرع على ذلك لكن هذا لا يثبت إلا إذا كنا نعرف أن نميز القبيح من الحسن بعقولنا لأن الشرع حتى و لو قال ذلك و أكد لنا الأمر و لكن من أين نعرف صحة كلامه و عدم كذبه لكي نؤمن به لأن القول بأن الكذب قبيح على الشارع بعد إنكار القبح العقلي لا يبقى له مجال فإذا لم يثبت بأننا نستطيع أن ندرك الحسن و القبح بالعقل لا يمكن أن نثبت صحة الشريعة و إنتسابها إلى الحق .
الدليل الثالث : إذا أنكرنا الحسن و القبح العقليين لا يمكن إثبات أي شريعة كانت بعد ذلك و لا يمكن أن نقبل النبوة من أي إنسان كان و لهذا نحتاج إلى دليل محكم لكي نستطيع أن نعتقد بنبوة الأنبياء و الأنبياء يأتون بالمعاجز التي هي من غير الممكن أن نحدث على يد أي إنسان عادي لكي يثبتوا دعواهم و لأن المعاجز لا تصدر إلا من الأنبياء لأن الله يأبى أن يظهر المعاجز على أيدي الظالمين و الفاسقين و لهذا نحن نصدق قول الأنبياء و نعتقد بنبوتهم لكن الذين لا يعتقدون بإدراك العقل للحسن و القبح يجوزون أن تظهر المعجزات على أيدي غير الأنبياء من الظالمين أو غيرهم لأنهم لا يعتقدون و لا ينزهون الحق عن القبائح التي يدركها العقل بفطرته كإجراء المعجز على أيدي الكاذبين و الظالمين.
* الآيات الواردة في القرآن الكريم عن الحسن و القبح العقليين:
1- [ أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار *أفنجعل المسلمين كالمجرمين]
2-[ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان]
3- [ إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي و يعظكم لعلكم تذكرون ]
4-[ قل إنما حرم ربي الفواحش…]
5-[ يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر]
6-[و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آبائنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء و المنكر]
أدلة منكري الحسن و القبح:
منكري الحسن و القبح العقليين هم الأشاعرة لأنهم يعتقدون بأن العقل لا يستطيع أن يدرك ما هو الحسن و ما هو القبيح قائلين بأن تحكيم العقل في باب التحسين و التقبيح يستلزم نفي الحرية عن المشيئة الإلهية و تقييدها بقيدٍ، إذ على القول بالحسن و القبح و إدراك العقل لهما يجب أن يفعل الله سبحانه و تعالى على طبق العقل و على طبق ما يحسنه و يقبحه فلكي تبتعد عن هذا التقييد و عن هذا القول علينا أن نقول بأنه لا حسن إلا ما حسنه الشارع و لا قبح إلا ما قبحه فالله سبحانه و تعالى حر في أفعاله حتى و إن عاقب المتقين و أكرم المجرمين و يعدّ هذا حسنا منه و ليس لأحد أن يعاقبه أو يعترض على ذلك.
لكن رأي الإمامية و المعتزلة هو تماما عكس هذا الرأي فالإمامية و المعتزلة المعبر عنهم بالعدلية يعتقدون بأن الإنسان لديه إختيار في أعماله و يستطيع بواسطة العقل أن يدرك الحسن من القبيح و لهذا العقل يحكم بصدق رسالة المصطفى محمد (ص) و إنحراف الرسالات الأخر و لهذا نستطيع أن نعرف بأن رسالتنا تهدي إلى الكمال و ترشد الإنسان إلى الصواب و لا توصلنا إلى الهلاك ، كما و إنّا نعتقد بأنّا على الحق و الآخرون من أي مذهب كانوا على الباطل.
قال الشيخ الأشعري : فإن قال قائل هل لله سبحانه و تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة ؟ قيل له لذلك و هو عادل إن فعله ، إلى أن قال : و لا يقبح منه أن يعذب المؤمنين و يدخل الكافرين الجنان و إنما نقول أنه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أن يعاقب الكافرين و هو لا يجوز عليه الكذب في خبره.
يشبّه الأستاذ جعفر السبحاني الأشاعرة بالسوفسطائيين الذين أنكروا حتى العينيات و الحقائق الخارجية و قد شككوا حتى في وجود أنفسهم و الواقع أن الأشاعرة القدماء كانوا كالسوفسطائيين لا يقبلون شيئا و لا يقفون حتى عند البديهيات لكن الذين يقاربون عصرنا و المتأخرين منهم عندما وقفوا أمام الكم الهائل من أدلة الإمامية و المعتزلة لم يستطيعوا أن يقاوموا ذلك و لهذا قبلوا من الحسن و القبح جزءا فقالوا لا يمكن المناقشة فيه و رفضوا القسم الآخر و هو إمكانية إدراك العقل لاستحقاق الثواب و العقاب للأفعال حتى و إن كانوا في داخل ضمائرهم يعترفون بالحسن و القبح لأن مسألة التحسين و التقبيح يوجد فيها أمور لا يمكن أن يرفضها العقل السليم فكل إنسان بعقله السليم يستطيع أن يميز ما هو الحسن ليحصل على ذلك الثواب و يستطيع أن يميز ما هو القبيح الذي يستحق عليه العقاب و يعرف ماذا عليه أن يفعل ليمتدح من قبل الناس و ماذا عليه أن لا يفعل لكي لا يذمه الآخرون لأن لكل إنسان فطرة سليمة قد خلقه الله عليها و هو يستطيع بواسطة هذه الفطرة و بواسطة ما يلائم و ما يضاد هذه الفكرة أن يميز ما هو القبيح و ما هو الحسن.
و الآن سوف نستعرض أدلة الأشاعرة في إنكار الحسن و القبح:
الدليل الأول :لو كان إدراك الحسن و القبح من الأمور البديهية لعلم كل إنسان بضرورة عقله فكل إنسان يستطيع أن يدرك أن الإثنين أكثر من الواحد و يعترف كل إنسان بذلك لكن في مسألة الحسن و القبح إختلافات و آراء كثيرة فلو كان موضوع الحسن و القبح من البديهيات لوجب أن يعترف و يعتقد به كل إنسان و نحن نرى بأن فيه كثرة من الآراء.
يجيب المحقق الطوسي على هذا الإشكال بقوله [ يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور] و يعني بذلك أنه حتى الأمور البديهية التي تدرس في المنطق ليست كلها بنفس البداهة فبعض هذه الأمور أوضح من الأخرى لأنه كما نعرف الأمور البديهية تقسم إلى ستة أقسام و يشرح هذه الأقسام السيد رائد الحيدري في كتابه المقرر في توضيح منطق مظفر:
1- الأوليات: و هي القضايا التي يصدق بها العقل لذاتها أي بدون سبب خارج عن ذاتها مثل الكل أعظم من الجزء و النقيضان لا يجتمعان
2- المحسوسات : و هي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس و الحس يقسم إلى قسمين أ: الظاهر و هي الحواس الخمس يعني الباصرة و الشامة و السامعة و اللامسة و الذائقة ب: الباطن و تسمى بالوجدانيات كالحس بأن لنا ألما و خوفا و عطشا و ,,,و نحو ذلك.
3- التجريبيات :و هي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا فيحصل بواسطة تكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه كالحكم بأن كل نار حارة .
4- المتواترات : و هي القضايا التي تسكن إليها النفس سكونا يزول معه الشك و يحصل الجزم القاطع و ذلك بواسطة أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب و يمتنع إتفاق خطئهم في فهم الحادثة كعلمنا بنزول القرآن الكريم على النبي محمد (ص).
5- الحدسيات : و هي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي جدا من النفس يزول معه الشك و يذعن الذهن بمضمونها كحكمنا بأن الأرض على هيئة الكرة و ذلك لمشاهدة السفن في البحر أول ما يبدوا منها أعاليها ، ثم تظهر بالتدريج كلما قربت من الشاطيء.
6- الفطريات: و هي القضايا التي قياساتها معها أي أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات بل لابد لها من وسط إلا أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب و فكر فكما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه مثل حكمنا بأن الإثنين خمس العشرة.
فكما رأينا حتى البديهيات الستة فقط القسم الأول منها لا يحتاج إلى سبب خارجي عن ذاته لكن بقية الأقسام كلها أقل بداهة من القسم الأول و لهذا نفهم بأن إستدلال الأشاعرة على فرض صحته فهو فقط يثبت لنا بأن موضوع الحسن و القبح ليس من الأمور البديهية و لا يثبت بأنه ليس من الأمور العقلية فاستدلال الأشاعرة كما نرى ضعيف و لا يفيد في هذا المجال.
الدليل الثاني :هو دليل القوشجي في كشف المراد صفحة 239ما هو مضمونه أن الحسن و القبح لو كانا عقليين لما أمكن أن يكون القبيح حسنا و الحسن قبيحا و نحن نرى بأن الكذب القبيح أحيانا يعد حسنا كما لو أنجى شخص بكذبه نبياً من الهلاك فهنا هذه الكذبة ليست قبيحة بل هي حسنة.
و يجيب المحقق الطوسي بجواب مختصر و مفيد على هذا الاشكال بقوله:[ يجوز إرتكاب أقل القبيحين] أو كما قال أكثر المتأخرين أن ما نحن فيه من الحسن و القبح كالكذب و الصدق إن القبح و الحسن فيهما ليس بنحو العلة التامة كالظلم و العدل بل مما فيه إقتضاء القبح و الحسن بحيث يحتاج المقام إلى عدم المانع ليصبح الأمر من المستقلات العقلية الذاتية في حسنها و قبحها و عليه فلا يكون الأمر من تبديل الحسن بالقبيح و بالعكس.
الدليل الثالث : لو قال شخص بأني سوف أكذب غداً و هذا وعد عليّ فهل سيكون العمل بالوعد و الكذب في اليوم الثاني حسناً أو نقول لأن الكذب قبيح فلا يجوز الكذب في اليوم الثاني و إذا قلنا بالقول الثاني كيف يجتمع هذا القول مع القول بأن الوفاء بالعهد حسنه ذاتي و إذا قلنا بالرأي الأول و عملنا بالعهد فلا يكون هنا معناً لقبح الكذب.
و يشرح هذا القول سعد الدين التفتازاني بقوله[ لو كانا بالذات لما إجتمعا كما في أخبار من قال لأكذبن غداً] شرح المقاصد ص 148-153
لكن العلامة في كشف المراد يرد على هذا الإشكال بقوله بأنه على كل إنسان أن يقول الصدق و يترك الكذب لأن الكذب فيه قبحين:
1- العزم على الكذب 2-إرتكاب الكذب لكن الصدق فيه قبح واحد و هو عدم الوفاء بالعهد.
لكن هذا الإشكال غير وافٍ و هو ضعيف و لا يمكن بواسطته أن نرد التفتازاني و القائلين بقوله بل يوجد رد أقوى منه و هو أن نقول بأن أولاً: كل إنسان يدرك بواسطة عقله حسن الصدق و قبح الكذب و قول التفتازاني يشبه المغالطة و فيه شيء من السفسطة و ثانيا يكون الوفاء بالعهد حسناً إذا كان متعلقه حسناً لكن إذا كان متعلق العهد شيئاً قبيحا فسوف يكون الوفاء بهكذا عهد قبيحا أيضا و لهذا فاستدلال التفتازاني من أصله باطل و ليس هناك أمر قبيح و أمر حسن لكي يكون الإنسان مرددا بينهما بل كليهما قبيحان أو نقول أن الوفاء بالعهد من الحسن الذي فيه إقتضاء الحسن ما لم يأته المانع و ذلك لما تقدم من أن صغريات الحسن و القبح تارة يكونان مما فيهما العلية التامة و تارة مما فيهما الإقتضاء فقط.
الدليل الرابع: إذا قلنا بأن الحسن و القبح ذاتيان و يدرك العقل حسن و قبح الأمور و أيضاً نحن نعرف أن العقل ينفي صدور أي فعل قبيح من الرب و هذا معناه أننا نقيد و نحدد الله في أفعاله .
لكن هذا الإستدلال غير صحيح من أصله لأنه عندما يأتي عالم من الطبيعة و يقول مثلا أنه في هكذا يوم سوف تمطر أو في هكذا يوم سوف ينزل الثلج من السماء فهو غير جابر للسماء بنزول الثلج بل هو متبع لبعض قوانين الطقس و لبعض آثار الطبيعة التي تؤثر على الجو و على هذا فهو يتخمن نزول الثلج من السماء فهو غير جابر للسماء بنزول الثلج بل هو متبع لبعض قوانين الطقس و لبعض آثار الطبيعة التي تؤثر على الجو و على هذا فهو يتخمن نزول الثلج في ذلك اليوم و هكذا بالنسبة لأفعال الله فالعالم الرباني عندما يتأمل في هذا الكون يرى بأن نظاما كاملا عادلا حكيما مسيطرا عليه فيحكم بحكم العقل بأن الله لا يفعل ما هو خارج عن العدالة أو خارج عن الحكمة و العلم فالله سبحانه و تعالى لا يترك العالم فوضى و دون نظام حتى للحظة واحدة.
الدليل الخامس : الأشاعرة يعتقدون بالجبر الإلهي و لهذا يعتبرون كل فعل صادر من الإنسان هو بالحقيقة صادر من الحق تعالى و لهذا لا معنى للبحث في موضوع الحسن و القبح لأن أفعال الإنسان غير صادرة منه.
ولكن نحن الإمامية لا نعتقد بالجبر بل نقول بالأمر بين الأمرين فهذا الدليل مردود عندنا من أصله و إثبات بطلان الجبر موكول إلى محله.
الدليل السادس : يقول الفخر الرازي في كتابه المحصل صفحة 239 بأن الله من الممكن أن يأمرنا بما لا يطاق فالله عزوجل قد أمر أبا لهب بالإيمان و هو يعرف بأن أبا لهب سوف لن يؤمن و لأن تخلف الأمور عن علم الله من المستحيلات فأيضا من المستحيل أن يؤمن أبولهب بالله عزوجل.
و قد أجاب العدلية عن هذا الدليل بأن علم الله الأزلي بعاقبة الأمور ليس معناه الجبر على الأفعال بل الله يعلم بأن هذا الفعل سوف يصدر من هذا الشخص على حسب مباديء الشخص و مقدماته الإرادية حيث شاء له تعالى أن يكون مختاراً و العلم الأزلي لا يستلزم الجبر و ليس من علله الموجبة له.
صحيح أنه قادر على أن يجبر الإنسان على فعل كل شيء لكن لكونه عادلا حكيما غير محتاج لأحد لا يجبر إنسانا على فعل أي أمر من الأمور.
الدليل السابع:قال بعض الأشاعرة بأن الحسن و القبح لو كانا ذاتيين لما تغير من بلد إلى بلد و من ثقافة إلى أخرى و من حضارة إلى حضارة ثانية لكننا نرى بأن مثلا المزح في بعض الثقافات يعتبر حسنا و في بعض الثقافات يعتبر قبيحا و الحجاب و الستر في بعض البلدان يعتبر حسنا و في بعض البلدان الأخر يعتبر قبيحا و كثير من هذه الأمثلة تدل على أن الحسن و القبح ليسا ذاتيين و إلا لما إختلفا باختلاف الحضارات و الأفراد و الأزمان و الأماكن.
لكن أجابوا على مثل هذه الأدلة بأن القصد من الذاتي هو أن العقل لوحده قادر على درك بعض الأمور و لا يحتاج إلى تدخل أمر خارج عنه فهو يدرك أن فعل بعض الأمور بما تطابق عليها آراء الإنسانية و هي عين فطرته و إنسانيته و أنه خليفة الله على الأرض و يدرك أن فعل بعض الأمور قبيحة و لا تطابق الإنسانية و لا تطابق الخلافة على الأرض.
و لو كان القصد من الذاتي هو فقط هذا فسوف لن يكون عندنا بعد ذلك إشكال لأنه إذا تغير ما في داخل الإنسان و ما في ضميره فهذا يسبب في تغيير حكمه على الأشياء فالكذب الذي يحكم العقل بقبحه عندما يكون سببا في نجاة إنسان من يد الظلمة يراه العقل حسناً لأنه تغيرت عناوينه عن الإنسان في باطنه و ضميره و عقله.
الدليل الثامن: لقد أتى الأشاعرة بأدلة من القرآن الكريم لكي يستشهدوا على رأيهم بها و لكي يثبتوا صحة أدلتهم بواسطتها مثل :
1-[ رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل]النساء 165 فالآية هنا تؤكد على العقل فلو كان العقل لوحده حجة على الناس لأتت الآية و أكدت على العقل و نحن نرى بأن الآية حتى لم تذكر العقل كحجة على الناس.
2-[و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا]إسراء15 و هذه الآية الثانية أيضا تؤكد فقط على دور الرسل في إتمام الحجة و لم تذكر العقل أصلاً.
و “الجواب” إن القائلين بهذا الدليل ظنوا أننا نعتقد فقط بحجية العقل دون الشرع و أن العقل هو الحاكم و المدار في جميع الأمور لكن الواقع ليس كذلك لأننا نقول بحجية العقل في أمور معينة و في الأمور البديهية أو التي تبتني على قضية بديهية لكن العقل ضعيف جداً في الوظائف العملية لكل إنسان و لا مجال له أبداً في الغيبيات و العبادات و مضمون الآية يؤكد ما نقوله لأن الرسول يأتي و يبين لنا الوظائف العملية لكل إنسان و يشرح لنا الغيبيات و العبادات و يأتي لنا بأدلتها و موارد تطبيقها و هناك كثير من الأمور الأخرى التي يبقى العقل فيها متحيرا لا قدرة له على الوصول إلى الحقيقة.
توجد أدلة أخرى من الأشاعرة لإثبات مطلبهم كما و أنه توجد ردود من العدلية عليهم أيضا لكننا نكتفي بهذا المقدار و لم نتطرق إلى ما أشير إليه كما عن الشهرستاني و الآمدي فإن العدلية قد ردوهم بردود أقوى بكثير من أدلتهم .
و بعد إستعراض الآراء المختلفة في مسألة التحسين و التقبيح العقليين و إستعراض الردود الواردة عليها نستطيع أن نستنتج بأن جميع المحاولات التي تهدف إلى نفي الحسن و القبح العقليين كلها ضعيفة و باطلة و لو نفينا الحسن و القبح العقليين لرأينا توجه الفساد في أمور كثيرة و تزلزل بعض الأنظمة المسيطرة على العالم البشري و عليه فمن المستحيل نفي التحسين و التقبيح العقليين الداخلين في كثير من مواطن الحياة البشرية.
الفصل السادس
البحث الثاني المرتبط بالعدل الإلهي
الجبر و الإختيار
بحث الجبر و الإختيار من البحوث التي فكر بها الإنسان منذ خلفته لأن كل إنسان عندما يفتح عينيه يريد أن يعرف مدى حريته فهل هو حر في جميع أعماله أو هو حر في قسم معين منها و مجبر على القسم الآخر، فعلى مرّ التأريخ طرحت أجوبة و مناقشات كثيرة في هذا البحث ، و النصوص الدينية قدمت أجوبة كثيرة على هذه الأسئلة و أهل الكلام فسروا و أجابوا في المقام على رأيهم و كذا الفلاسفة أجابوا في المقام أيضا على أسسهم و مبادئهم و هكذا المثقفون و الغربيون قد ناقشوا هذا البحث بطرق مختلفة لكن نحن بالأول سنأتي بالآيات و الروايات الواردة في هذا الموضوع.
أما الآيات الواردة في القرآن الكريم عن الجبر و الإختيار:
- [إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفورا]الإنسان3
- [ إن الله لا يظم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون]يونس44
- [قل يا أيها الناس قد جائكم الحق من ربكم فمن إهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها]يونس 108
- [فمن شاء إتخذ إلى ربه سبيلا]الإنسان29
- [فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره]الزلزال 7-8
- [و لتسألن عما كنتم تعملون]النحل93
- [كل نفس بما كسبت رهينة]
- [ إن الله لا يغير ما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما]الإنسان30بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم]الرعد11
- [و لو يشاء الله لهدى الناس جميعا]الرعد 31
- [و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين]التكوير 29
- [قل إن الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب]الرعد 27
- [يهدي الله لنوره من يشاء]النور35
- [و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين]يونس 99
- [و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله و يجعل الرجس على الذين لا يعقلون]يونس100
و أما الروايات الواردة في موضوع الجبر و الإختيار فنذكر منها جانبا أيضاً:
- روي أن الفضل بن سهل سأل الإمام الرضا(ع) بين يدي المأمون فقال يا أبا الحسن الخلق مجبورون ؟ قال الإمام (ع) :[الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يذبهم ] فقال الرجل : فمطلقون؟ قال الإمام (ع) :[ الله أحكم من أن يهمل عبده و يكله إلى نفسه]بحار الأنوار56:5/120
- عن محمد بن مسلم عن أبي عبدالله الصادق(ع) يقول: [ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية و خلع الأنداد و أن الله تعالى يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء] الكافي1/147باب البداء كتاب التوحيد
- عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبدالله يقول إن مما أوحى الله تعالى إلى موسى(ع) و أنزل عليه في التوراة: إني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق و خلقت الخير و أجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه و أن الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق و خلقت السر و أجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه.الكافي ج1باب الخير و الشر صفحة118
- قال أبي عبدالله عن الرسول (ص) من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله و من زعم أن الخير و الشر بغير مشيئة الله فقد أخرجه الله من سلطانه و من زعم أن المعاصي بغير قدرة الله تعالى فقد كذب على الله و من كذب على الله أدخله النار .الكافي
- و الرواية المعروفة في كل الكتب عن أبا عبدالله [ لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين]
- قال الإمام الصادق(ع) : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون و الله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.الكافي ج1ص160
- و في كتاب التوحيد و العيون عن الرضا(ع) قال : [ذكر عنده الجبر و التفويض فقال ألا أعلمكم في هذا أصلا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، فقال(ع) : [ إن الله عزوجل لم يطع بإكراه و لم يعص بغلبة و لم يهمل العباد في ملكه و هو المالك لما ملكهم و القادر على ما أقدرهم عليه فإن أثمروا العباد بطاعته لم يكن الله منها صاداً و لا منها مانعاً و إن أثمروا بمعصيته فإن شاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل و إن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه] ثم قال [من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه]
الآراء في بحث الجبر و الإختيار تنقسم إلى ثلاثة أقسام
- القائلون بالجبر
- القائلون بالتفويض
- القائلون بالأمر بين الأمرين
القسم الأول القائلون بالجبر: إنقسم الجبريون إلى مسلكين أ: مسلك جهم بن صفوان و أتباعه و هم القائلون بأن الإنسان مجبور و مقهور في جميع أفعاله و ليس لديه إختيار حتى في حركة يده بل الله هو الفاعل الأصلي في جميع أعمال الإنسان .
ب:المسلك الثاني هو مسلك أبو الحسن الأشعري و أتباعه و هم الأكثرية و هم القائلون بأن أفعال العباد الإختيارية واقعة بقدرة الله و ليس لقدرة الإنسان تأثير فيها فهم قائلون بأن الفعل في أصله صادر من الحق تعالى فإذا ضرب الإنسان طفلا يتيما فهذا الفعل صادر من الحق تعالى لكن الإنسان مخيّر فقط في نيته فإذا كانت نيته حسنة بأن كان الضرب مثلا لتربية ذلك الطفل فسيكون الفعل حسناً و إذا كانت نيته سيئة بأن كان الضرب مثلا لإيذاءه و إستحقاره فسيكون الفعل قبيحا و الله يعاقب و يجازي الإنسان في الآخرة على حسب نيته في الفعل.
و القائلون بالجبر على مسكين منكرون للحسن و القبح العقليين و إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحسن و القبح في الأفعال بل ما يقوله الشارع هو الحسن و ما يذمه الشارع هو القبيح في الأفعال فكيف سيكون الإنسان مخيرا في نيته فإذن حتى النية إذا كان الله هو المعين لها فسيكون الإنسان مجبراً عليها خصوصا على القوم بالإرادة الأزلية الإلهية و القدرة الإلهية و تفسيرهم الخاطيء لهذه المفاهيم.
و قد وقع المجبرة في إشكال ثاني و هو أن الله قد جاء بدين الإسلام و أراد من البشر أن يستسلموا لدين الحق فكيف يمكن أن تكون إرادته الأزلية متعلقة بشيء و هو إسلام الكافرين و يبقى قسم كبير من البشر حتى مع سماعهم لأقوال النبي متلبسين بلباس الكفر فكيف يمكن أن يتخلف المراد عن إرادته تعالى .
و لكنهم جاوبوا على هذا الإشكال بأنه توجد إرادة أزلية و هي مستحيل أن يتخلف المراد عنها و يوجد طلب من الحق تعالى و هذا لا مانع من تخلف المطلوب عنه فالله سبحانه و تعالى يطلب من العباد أن يصلوا و لكن إذا لم يصلي أحد من الناس فهذا ليس معناه بأنه تخلف المراد عن الإرادة الأزلية الإلهية بل معناه تخلف الإنسان عن طلب الحق تعالى لكن جدّ العدلية عليهم بأن هذا القول ينافي إنكارهم للحسن و القبح العقليين.
المجبرة و أدلتهم لما ذهبوا إليه:
الدليل الأول : قالوا بأن كل فعل صادر عن الإرادة و هذه الإرادة إما أن تكون هي بنفسها صادرة عن الإرادة فستحتاج إلى إرادة أخرى و هكذا فتتسلسل الإرادة إلى اللانهاية و إن لم تكن الإرادة إرادية يلزم الجبر أو ترجع إلى إرادة أزلية فيكون تابعا لها مجبوراً.
* الجواب على هذا الدليل يحتاج إلى بيان مقدمات:
المقدمة الأولى: هي أن كل إنسان يعرف بأن وراء هذا الجسد المادي يوجد شيء في وجوده غير مادي أي وراء الأمور المحسوسة التي تشكل جسم الإنسان يوجد شيء غير محسوس و غير مادي و هو الذي يعبر عنه الإنسان بالروح.
المقدمة الثانية: و هي ما قالها أرسطو بأن سبب صدور الفعل هو ذلك الفعل لا الشوق المشترك بين الإنسان و سائر الحيوانات و قال أيضاً أرسطو بأن الشوق يتعلق بالمستحيل و الممتنع فلا يعقل تعلق الإختيار به و على هذا فإن من غير الصحيح القول بأن الشوق إلى شيء هو علة لفعل ذلك الشيء بل توجد بينهما أي بين الشوق و فعل الشيء واسطة هي إعمال القدرة كما إذا إشتاق الإنسان بكمال شوقه الذهاب إلى منطقة معينة و لكن كان يعرف بأن في مسير تلك المنطقة وحوش قد يموت قبل الوصول إلى تلك المنطقة و لهذا سيكره الذهاب إلى هناك كمال الكره فذلك الإنسان مع ما أنه قد وصل إلى كمال الشوق لكن لم يحقق متعلق الشوق و هو الذهاب إلى هناك فالشوق ليس علة تامة لفعل الشيء بل يحتاج إلى واسطة ألا و هي القدرة فهنا نعرف موضوعاً مهماً و هو أن زمام الأمور الإنسان بيده يحركها إلى أي مدى يريد فإذا أراد وصل إلى كمال من الشوق و إذا أراد وصل إلى كمال من الكره.
المقدمة الثالثة: يقول قانون العلية و المعلولية بأن وجود كل شيء يحتاج إلى العلة و هذا المعلول لا يتحقق إلا إذا كانت العلة كاملة و تامة بكل أجزاءها و كانت الموانع مرتفعة و على هذا فإن كل موجود يحتاج في وجوده إلى الموجد و إلى الصانع و لكن إحتياج كل ممكن إلى العلة التامة ليس معناه أن الرغبة و مجرد الشوق يكفي لتحققه لأن هذه لم تحقق العلية التامة ما لم تحصل جميع السلسلة لتكون علة تامة من تصور الشيء إلى مرحلة حملة النفس و إلا فلا نقاش في أصل القاعدة من كون الشيء تابعاً لعلله التامة و مجرد إحراز النفع أو الضرر لا يكفي لتحقق نصاب العلة يخالف ما أدركه العقل من حاجة الممكن إلى علة و إن الترجح بلا مرجح محال و إن كانت العلل في عالم الإمكان هي مجاري الفيض لرجوع الجميع إلى الحق تعالى الذي هو واقع العلية التي بها إخراج الشيء من كتم العدم.
و بعد كل هذه المقدمات سنعرف بأن السبب لوقوع الفعل الإختياري ليس هو الشوق لوحده بل يحتاج الأمر إلى واسطة ألا و هي إعمال القدرة بعد الشوق إلى الفعل.
الدليل الثاني : قال المجبرة بأن كل إنسان يعرف بأنه مجبر على بعض الأمور فمثلا عندما يولد طفل من أبوين هو بالتأكيد سيأخذ كثيراً من طباعهم و أوصافهم الجسمية بحسب قانون الوراثة ، فهو في ذلك غير مخير بل سيأخذه هذه الطباع و الأوصاف شاء أم أبى.
“الجواب” أننا لا ننكر دور الوراثة في الأوصاف الجسمية و قد أشار إلى ذلك العلماء و قد أشارت إلى ذلك أيضا الروايات عن الأئمة (ع) و لكن هذا التأثير ليس قطعيا بنحو العلية التامة لتكون موجبة لسلب الإختيار لأنه كم يوجد أبوان بأوصاف جسمية معينة و يخرج الطفل منهم بشكل آخر لا يشبههم خَلقاً و لا خُلقاً و كم يكون هناك أبوان قد إجتمعت فيهما كثير من الصفات السيئة و يخرج الطفل و فيه الكثير من الصفات الحسنة و الروايات أيضا تشير إلى تأثير البيئة و التربية و الثقافة فقد يخرج الطفل من أبوين صينيين شيوعيين مثلا ثم يربى في منطقة مسلمه فإنه سوف لن يخرج الطفل بخصال شيوعية و نفسية أبوية بل سيكون مسلما متربيا بتربية إسلامية و على هذا فإنه حتى الوجدان يقر بأن الإنسان ليس في كثير من الأحيان مجبرا حتى في الوراثة بل هو حر في أفعاله و خصاله ،نعم التأثير الوراثي و الحضارة و غيرهما لها التأثير بنحو المعد و القابلية و الإستعداد لكن لا نعتقد أن لها السببية بنحو المقتضي فضلا عن العلية التامة الموجبة للجبر.
الدليل الثالث:قالت المجبرة بأن الله خالق كل شيء و وأنه علة العلل و مبدأ كل شيء و صانعه و ليس لأحد في ذلك تأثير و لا إختيار و من جملة ما هو غير مختار بالنسبة إليه هي أفعال الإنسان فالأفعال مخلوقة لله سبحانه و تعالى و هو مبدأها و صانعها و المؤثر فيها و لا دخل لأحد في ذلك لقوله تعالى [خلق كل شيء و هو بكل شيء عليم]الأنعام10و لقوله تعالى [ألا له الخلق و الأمر]الأعراف 53 و لقوله تعالى [ذلك الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو]المؤمن62
“الجواب على هذا الدليل” قالت الشيعة الإمامية صحيح أن مبدأ و صانع كل شيء هو الله و هو علة العلل و لكن هناك كثير من الأمور و إن صح أن ا لله صانعها و واجدها و لكن لها عللها المادية أو غير المادية أيضاً بإذن الله تعالى فمثلا الله خالق نار و هو علة له و لكن النار لها عللها المادية أيضا كإحراق الحطب فكثير من الأمور صحيح أننا نعتقد بكونها معلولة و مصنوعة و مخلوقة لله و الله تعالى مبدأها و لكن نعترف بأن لها العوامل و الأسباب الطبيعية أيضا بإذنه تعالى و هكذا بالنسبة لأفعال الإنسان فالأفعال صحيح أنها مخلوقة لله و لكن لكل فعل أسباب و علل من الإنسان نفسه لأن الله شاء للإنسان أزلاً أن يكون مختاراً و لو لم يكن كذلك لما كانت الإرادة الإلهية متحققة في نظام الكائنات و لهذا نرى في القرآن الكريم آيات تنسب الفعل إلى فاعله تارة و إلى الله تعالى أيضا مثل قوله تعالى : [و الله خلقكم و ما تعملون]الصافات95 حيث دلت هذه على أن الفعل صادر و مخلوق فقط من الله سبحانه و تعالى ثم تأتي آية أخرى و تقول :[و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى]الأنفال 18 فالآية تنسب الفعل إلى الرسول ثم تنفيه ثم تنسبه إلى الحق تعالى .
و هناك بعض الآيات التي تنسب الفعل كله إلى الإنسان و تعتبره مسؤولاً عما يفعل مثل قوله تعالى :[كل نفس بما كسبت رهينة] المدثر38 و قوله تعالى :[فألهمها فجورها و تقواها*قد أفلح من زكاها* و قد خاب من دسيها]الشمس7-8-9- و هناك ما يدل على أنه فعل الإنسان و الله تعالى معاً ممثل بحول الله و قوته أقوم و أقعد و إن كان مثل هذا في التأمل من أعظم أدلة الإختيار و إن رجع أصل الفيض إلى الله تعالى .
و إذا قرأنا القرآن بتدبر و تمعن سنرى بأنه توجد ثلاثمائة آية كلها تنسب الفعل إلى الإنسان نفسه.
الدليل الرابع:قالت المجبرة بأن لله سبحانه و تعالى إرادة أزلية و قد كتب على كل إنسان بأنه كيف يكون و ماذا سيفعل و على هذا فإن الله مجبر للإنسان في أفعاله لأنه يستحيل تخلف المراد الإنساني عن الإرادة الأزلية لقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون] يس82 فجميع أفعال الإنسان قد وجدت بإرادة الله لأنه علام الغيوب و ليس للإنسان إختيار في أفعاله لرجوع جميع الأمور إلى الإرادة الأزلية الإلهية.
“قد أجاب المحقق الخراساني على هذا الدليل” بقوله: أن في العالم توجد أمور متعلقة بالنظام الأساسي في الكون و نحن غير مختارين في حدوث هذه الأمور و توجد أمور متعلقة بأشخاص معينين و أشياء بسيطة جدا و نحن في هذه الأمور مختارين و أفعال الإنسان هي من النوع الثاني لأنها لا تخص إلا الفاعل أو أشخاص قليلين جدا فهي غير مرتبطة بالنظام الأساسي للكون و لهذا فكل إنسان مختار في أفعاله.
الدليل الخامس: لقد إستدل المجبرة على القول بالجبر بمجموعة من الآيات و قالوا بأنه يوجد في القرآن الكريم ثلاث و أربعون آية تدل على أن أفعال الإنسان صادرة و مخلوقة لله سبحانه و تعالى .
و لكن يرد على هذا الدليل بأن الآيات الواردة في هذا المجال تنقسم إلى طوائف:
الطائفة الأولى: الآيات التي تدل على أنه لو سلط الله تعالى إرادته على شيء مستحيل أن يتخلف الشيء عن إرادته مثل قوله تعالى :[إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ]يس82 و وقوله تعالى :[قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً]الفتح11و هذا مما لا جدال و لا خلاف فيه فنحن العدلية نعتقد بأنه إذا تعلقت إرادة الحق تعالى بشيء سيتحقق ذلك الشيء بالتأكيد و من المستحيل أن يتخلف المراد عن الإرادة الإلهية.
الطائفة الثانية: و هي الآيات التي تجعل نتيجة إرادة الإنسان موروداً لإرادة الله تعالى مثل قوله تعالى :[من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحوراً* و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكوراً* كلاً نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظوراً]الإسراء18-19-20 و لكن هذه الآيات لا تدل على الجبر بل غاية ما تدل عليه أن الإنسان مختار في أفعاله و إذا أراد شيئاً من السوء أو من الخير سيمده الله تعالى و سيساعده و يفتح له الأبواب للوصول إلى ما يريد دون أن يجبره على شيء.
الطائفة الثالثة :الآيات لتي تدل على تعلق إرادة الحق باليسر لا العسر مثل قوله تعالى :[يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر]البقرة185 و هذه الطائفة أيضاً بعيدة عن قول المجبرة كما هو واضح .
الطائفة الرابعة: و هي الآية التي تدل على عدم إيمان قوم نوح إذا لم تكن إرادة الحق تعالى متعلقة بذلك و هي قوله تعالى :[ و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم و إليه ترجعون]هود34
و لكن الواقع هو أن كلمة ألغى التي فسرت من قبل المجبرة على كونها بمعنى الضلالة و عدم الإيمان لا تدل على هذا المعنى بل من الممكن أن يراد منها اليأس أو العقاب الإلهي و على التفسير باليأس أو العقاب الإلهي سوف لن تكون الآية نافعة لقول المجبرة.
الطائفة الخامسة: و هي التي تدل على أن الله سبحانه و تعالى يشرح صدر البعض لقبول الإسلام و يجعل صدر البعض الآخر ضيقاً بحيث يستحيل عليهم تقبل الإسلام و هي قوله تعالى :[فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون]الأنعام125 و لكن الواقع أن هذه الآية من جزء كثير من الآيات الأخر التي تدل على أن الإنسان إذا عصى الله سبحانه و تعالى بشكل كبير و تعددت الكبائر التي يرتكبها فسوف يكون بعيداً عن رحمة الله و سوف يبعده الله من عنايته و هكذا إذا تقرب العبد إلى الحق تعالى بواسطة أفعاله الحسنة و الجيدة فسوف يجعله الله عزوجل قريباً منه و سوف يعتني به و يراعيه و يجعله تحت رحمته و غفرانه فهذه الآية كما الآيات السابقة لا تدل و لا تؤيد قول الجبرية.
الطائفة السابعة: و هي الآيات التي تتضمن المشيئة الإلهية و شرحها مثل:
- [و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله]الإنسان 30
- [قل الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب]الرعد27
- [لله ما في السموات و ما في الأرض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء]البقرة284
- [قل لا أملك لنفسي نفعاً و لا ضراً إلا ما شاء الله ]يونس 49
- [و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله]كهف24
و لكن هذه الآيات لا تفيد المجبرة بشيء فالآية الأولى تبين أن القرآن هو الهادي إلى الطريق الصحيح و كل إنسان له قابلية و إمكانية للوصول إلى ذلك الطريق و لكن هناك من يستفيد من هذه الإمكانية و يذهب وراء الطريق الصحيح و هناك من لا يستفيد منها و يذهب إلى الطريق السيء و الضال فيضل و صحيح أن الله تعالى قادر على أن يجبر الناس على الهداية أو الضلالة و لكن لكونه تعالى حكيما و عادلا لا يفعل ذلك و لأنه عزوجل خلق الدنيا لكي تكون دار إختيار و إختبار فإن أجبر الناس على أفعالهم ستخرج الدنيا عن كونها دار إختيار و إختبار.
و أما الآية الثانية و كثير من الآيات التي تشبهها مثل :[ إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء]العنكبوت69 لا تدل على الهداية العامة لأن لدينا هداية عامة و هداية خاصة ، أما الهداية العامة فهي التي قد جعلها الله تعالى في فطرة كل إنسان و حيوان كاهتداء النمل إلى تشكيل جمعية و حكومة، و الهداية الخاصة هي التي يخص الله بها طائفة معينة من الناس فهذه الآيات تدل على الهداية الخاصة و الهداية الخاصة يخص الله بها بعض عباده حسب حكمته فالله يساعدهم و يسددهم عن الأخطاء و المعاصي لكي يصلوا إلى طريق الكمال.
و أما الآية الثالثة فهي بعيدة عن رأي المجبرة لأنها تؤكد فقط على محاسبة الناس في يوم القيامة على الظاهر و الباطن.
و أما الآية الرابعة فإن كان المراد من النفع و الضرر هو النفع و الضرر الطبيعي فهو خارج عن محل الكلام و إن كان المراد هو العمل بالوظائف فيكون من جهة أن كون جعل الوظيفة و بيانها على الله تعالى و هكذا يتبين المعنى للآية الخامسة أيضاً.
و توجد أدلة أخرى للمجبرة كالإستدلال بعلم الله و الإستدلال بسلطنة الله و الإستدلال بإسناد الإضلال إلى الله تعالى و لكن لأن كلها ضعيفة و قد ردها العدلية بردود قوية نكتفي بهذا المقدار و نزيد على هذه الردود بأن كل إنسان يدرك بعقله و فطرته و وجدانه أن له إرادة و إختيارا يستطيع أن يفعل ما يريد و يترك ما يريد و كان كلام المجبرة مخالفا للوجدان السليم و العقل و الفطرة السليمة.
2: القسم الثاني القائلون بالتفويض: القائلون بالتفويض هم الذين قالوا بأن الإنسان مفوض إليه عمله فهو مختار في أفعاله مطلقاً و بلا أي سلطان إلهي فإذا فعل و إذا لم يرد ترك و هم إعتبروا أنفسهم من القائلين بالعدل الإلهي و قد إشتهر بهذا القول المعتزلة و على رأسهم أبو الحسن البصري و إمام الحرمين من أهل السنة.
قال المحقق الطوسي :[ذهب مشايخ المعتزلة و أبو الحسن البصري و إمام الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد له قدرة قبل الفعل و إرادة بها تتم ثأثيراته فيصدر منه الفعل فيكون العبد مختاراً إذا كان فعله بقدرته الصالحة للفعل و الترك تبعاً لداعيه الذي هو إرادته]
و قال محمود الملاحمي و غيره من المعتزلة :[ أن الفعل عند وجود القدرة و الإرادة يصير أولى بالوجود ]
و قال الشيخ المفيد في شرح الإعتقادات:[ التفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال و الإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال]
و قال الإمام علي بن موسى الرضا(ع) ما رواه الصدوق بإسناده عن يزيد بن عمير[ و من زعم أن الله عزوجل فوض أمر الخلق و الرزق إلى حججه (ع) فقد قال بالتفويض]عيون أخبار الرضا ص 78
و قال أكثر المفوضة بوجوب الفعل بعد إرادة الإنسان و البعض أنكر ذلك و لكي نشرح عقيدة المفوضة أكثر نقول: بأن المفوضة يعتقدون أن مبدأ الفعل يصدر من الإنسان و إرادته و هي المؤثرة في ذلك و شوقه للفعل هو المؤثر أيضاً و يبقى فقط بأن يكون الفعل بأي مستوى مطابقا مع قدرة الشخص و إرادته.
و تقريباً للذهن نضرب مثالاً: إذا بنى البنّاء جداراً ، فالجدار في وجوده يحتاج إلى الصانع و البنّاء لكن بعد أن يتم البنّاء البناء فالجدار سيكون مستغنياً عنه و هكذا بالنسبة إلى الإنسان و أفعاله فكل إنسان في وجوده يحتاج إلى الله تعالى لكن بعد أن يفيض الله تعالى من رحمته عليه و يوجده فسوف لن يحتاج العبد في صدور أفعاله إلى شيء آخر و لأنه يصبح المؤثر التام في ذلك الفعل .
و إذا تأمل الإنسان في هذا الكلام سيرى فيه أخطاء كثيرة و كأن المفوضة نسوا بأن الإنسان ممكن و الممكن لا يحتاج فقط في وجوده إلى الخالق و الصانع بل هو في كل لحظات حياته و في كل أعماله يحتاج إلى المدد و العون فالممكن محتاج إلى العلة حدوثاً و بقاءً لأن طبع الممكنات مفتقر و محتاج في كل كيانها إلى المدد و العناية من الحق تعالى .
القسم الثالث : القائلون بالأمر بين الأمرين.
بعدما بيّنا معنى الجبر و معنى التفويض و عرفنا ردود الشيعة الإمامية عليهم علينا أن نبين الرأي المختار عندنا و هو رأي الأئمة عليهم أفضل الصلاة و السلام و لكن تعددت الآراء و التفاسير في قول الإمام الصادق :[لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين] فكل عصر و زمن من الازمنة و كل عالم من العلماء قد فسر الأمر بين الأمرين على طبق مشربه و تأويله لروايات الأئمة.
المسلك الأول هو ما ذهب إليه الشيخ المفيد رحمة الله عليه في شرحه على الإعتقادات: قال الشيخ المفيد:[إن الله عزوجل أقدر الخلق على أفعالهم و مكنهم من أعمالهم و حدّ لهم الحدود في ذلك و نهاهم عن القبائح بالزجر و التخويف و الوعد و الوعيد فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها، و لم يفوض الأعمال إليهم لمنعهم من أكثرها و وضع الحدود لهم فيها و أمرهم بحسنها و نهاهم عن قبيحها فهذا هو الفصل بين الجبر و التفويض]
المسلك الثاني: و قال البعض بأن القصد من الأمر بين الأمرين هو أن الله تعالى قد جعل عباده مختارين في فعل الشيء و تركه مع قدرته في إجبارهم على الفعل أو الترك.
المسلك الثالث: ما ذهب إليه المحقق العراقي في تقريرات بحثه :[ بأنه يصح أن يقال لا جبر في البين لكون أحد مباديء الفعل هو إختيار الإنسان المنتهي إلى ذاته و لا تفويض بملاحظة كون بقية مبادئه الأخرى مستندة إليه تعالى و لا مانع من أن يكون ما ذكرناه هو المقصود بقوله عليه السلام:[ لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين]
المسلك الرابع : هم مسلك القائلين بأن القصد من التفويض المنفي عنه هو تفويض الخلق في نظام الكون و في الخلق و في الصنع و في الصفات التي هي مختصة لله عزوجل فقط لا غير ذلك .
المسلك الخامس : هو مسلك الذين قالوا بأن كل فعل لا يصدر إلا بمجموع القدرتين أي بالقدرة الإلهية و القدرة و الشوق من العبد فالعبد لا يستطيع أن يفعل أي شيء دون دخالة قدرة الله و هو في نفس الوقت ليس مجبراً على ما يفعله بحيث يكون غير مؤثر في فعله.
المسلك السادس ما ذهب إليه المحدث الكاشاني في الوافي ، قال :[ قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته و زمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده و قد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع الممكنات و لم يخرج شيء من الأشياء مصلحته و علمه و قدرته و إيجاده… فأفعالنا و أعمالنا كسائر الموجودات و أفاعيلها بقضائه و قدره و هي واجبة الصدور منّا بذلك و لكن بتوسط أسباب و علل من إدراكاتنا و تفكرنا و ت خيلنا فالفعل إختيار لنا فإن الله تعالى أعطانا القوة و القدرة و الإستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا مع إحاطة علمه، فوجوبه لا ينافي إمكانه و إضطراريته لا تدافع كونه إختيارياً، كيف و إنه ما وجب إلا و بالإختيار…فنحن في عين الإختيار مجبورون بمعنى أننا مجبورون على الإختيار]
و لكن كل هذه المسالك التي طرحت لعلها لا تطابق الروايات الواردة عن الأئمة في هذا المجال فكلها عند التأمل قد يكون ميلا فيها نحو الجبرية و إما أن يكون فيها نحو المفوضة و ليست أمراً بينهما.
و الحق أن يقال أن الأمر بين الأمرين الذي أكدت عليه الروايات هو أن الفعل يصدر عن إختيار العبد و قدرته و لكن العبد لا يستطيع أن يفعل أي شيء و أن ينفذ أي أمر إلا بإفاضة من الحق تعالى عليه فالفعل إذاً صادر من العبد و لكن بفيوضات الرحمة من الحق تعالى فالعبد مفتقر في حياته و في أفعاله و في كل شيء إلى إفاضة الرحمة من الحق سبحانه و تعالى و قد سلك هذا المسلك المحقق النائيني و المحقق الإصفهاني و غيرهما من الأعلام .
أم الروايات الواردة عن الأئمة في الأمر بين الأمرين.
- روى الصدوق بسند صحيح عن الإمام الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر و التفويض ، فقال (ع) ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا : إن رأيت ذلك فقال عليه السلام : إن الله عزوجل لم يطع بإكراه و لم يعص بغلبة و لم يهمل العباد في ملكه هو المالك لما ملكهم و القادر على ما أقدرهم عليه فإن إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صاداً و لا منها مانعا و إن إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل و إن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.التوحيد باب نفي الجبر و التفويض الحديث 7 ص361
2.و في التوحيد عن الصادقين عليهما السلام : إن الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها و الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون ، قال فسئلا عليهم السلام هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟قالا: نعم أوسع ما بين السماء و الأرض.التوحيد باب59حديث3
3.عن محمد بن عجلان قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : فوض الله تعالى الأمر إلى العباد ؟قال (ع) الله أكرم من أن يفوض إليهم ، قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ فقال (ع): الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذبه عليه .التوحيد باب59حديث6
4.عن الصادق عليه السلام قال رسول الله (ص) : من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله تعالى ، و من زعم أن الخير و الشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه و من زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله .التوحيد باب59حديث2
5.قال أبو عبدالله عليه السلام : أخبرني عما إختلف فيه من خلفك من موالينا ، قال : قلت في الجبر و التفويض قال : فاسألني ، قلت : أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : الله أقهر لهم من ذلك ، قال : ففوض إليهم ؟ قال : الله أقدر عليهم من ذلك ، قال : قلت فأي شيء هذا أصلحك الله ؟ قال : فقلب يده مرتين أو ثلاثاً ثم قال : لو أجبتك فيه لكفرت.التوحيد باب59الحديث11
الفصل السابع
البحث الثالث المرتبط بالعدل الإلهي
القضاء و القدر
و هو الذي يبحث عن مدى حرية الإنسان في مقابل الله و هنا أمران ربما أورثا شبهة الجبر و هما أزلية الإرادة الإلهية و حدوث الكائن الممكن فقد يقال أن الإرادة الإنسانية لابد و أن تكون تابعة لإرادة الحق تعالى الأزلية و عليه فيكون الإنسان مجبورا و تابعا في إرادته الإمكانية للإرادة الواجبة الأزلية.
الشبهة الثانية : إذا كان كل شيء بقضاء و قدر إلهي فكيف يعقل تصور حرية و إختيار مع تبعية لهذا القضاء و القدر الإلهي النافذ في كل شيء بما في ذلك الإرادة الفعل الإنساني.
فقال المعتزلة لو كانت الإرادة الإلهية الأزلية نافذة و مسيطرة على كل شيء فأين العدل الإلهي و أين هي الحرية و لكن الأشاعرة لم يقبلوا قول المعتزلة بل قالوا بالجبر الإلهي بمقتضى الإرادة و العلم الأزلي لله سبحانه و تعالى .
ولكن الواقع ليس هكذا فالله عزوجل قد أعطى كل إنسان إمكانية لفعل الخير و إمكانية لفعل الشر فيكون الإنسان هنا مختارا بين الأخذ بالإمكانية الحسنة و ترك الإمكانية السيئة و بين الأخذ بالإمكانية السيئة و ترك الإمكانية الحسنة فالله عزوجل مثلا أعطى زيداً القدرة على النظر أي قضى له بذلك فزيد يستطيع بواسطة هذه القدرة أن ينظر إلى الأمور المحللة له و يستطيع أن ينظر إلى المحرمات فهو هنا مختار في إختيار أحد الجهتين في جميع أموره.
فالله سبحانه و تعالى قد أعطى الإنسان نسبتين: نسبة إلى التفويض و نسبة إلى الجبر فالإنسان مجبر في إقتضائه الذاتي الذي يعطيه الله إليه و هو مفوض في إختيار الخير و الشر بالنسبة إلى الأمور التي تجري حوله لقوله تعالى :[جزاء بما كانوا يعملون الواقعة24] و لقوله تعالى[ و إنما هي أعمالكم ترد عليكم] و هناك رواة تشير إلى القضاء و القدر الإلهي عن أبي الحسن الرضا (ع) في الكافي : أنه قال الله تعالى : [ يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت فرائضي و بنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني و ذلك أنني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون]الكافي ج1 ص 117
و هناك رواية عن علي (ع) أنه كان جالسا في ظل جدار و فجأة عرف أن الجدار منحن و مشرف على الإنهدام فابتعد عنه و حينئذ اعترضه أحد الحضور قائلا أمن قضاء الله تعالى تفر يا علي ؟ أي لو أن الله أراد لك الموت فسواء هربت من تحت الجدار الموشك على السقوط أم لم تفر فإن الموت محقق و لو أراد لك الحياة فهو يحفظك ، فأجابه علي (ع) أفر من قضاء الله تعالى إلى قدره.
و معنى هذه الجملة أن أي حادث لا يحدث في الكون إلا بتقدير من الله و قضائه فإذا عرّض الإنسان نفسه للخطر ثم فر من ذلك فهذا قانون الله تعالى و قضائه و إذا فر الإنسان من الخطر و نجى نفسه فذلك أيضا قانون الله تعالى و تقديره فلو ألقى إنسان بنفسه في المحيط الملوث بالمكروبات ثم أصابه المرض فهذا أيضا قانون الله و إذا مرض فشرب الدواء و نجى من المرض فهذا قانون الله أيضا و على هذا فإذا فرّ الإنسان من تحت الجدار المشرف على الإنتقاص فهو لم يخالف قضاء الله و قدره لأن في هذه الشروط يحكم قانون الله أن يكون مصونا من الموت .
قال تعالى [ و من يتق الله يجعل له مخرا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً]الطلاق الآية2و3
و أما القضاء فهو الحكم الكلي الذي يصدر من الحق تعالى و القدر هو مصاديق القضاء لقوله تعالى [ و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم ] فالعلم الإجمالي هو القضاء و العلم التفصيلي هو القدر و العلم الإجمالي هو المقدم على العلم التفصيلي.
فمسألة القضاء و القدر من المسائل العويصة التي تعددت الآراء فيها لعدم الوعي و لعدم القراءة و البحث و المعرفة الدقيقة.
عرّف اللاري القضاء بأنه العمل المحتوم الذي لا رجوع فيه و هو من فعل إله و القدر يعني المقدار و الكيفية لجريان نظام الوجود و التقنية الكونية فالقدر أيضا من خلقة الله تعالى الماضية في جميع موجوداته و على هذا التفسير فالقضاء و القدر يعني أن الله هو الذي خلق التقنية الكونية و نظامها و هو الذي قدرها و قضى بجريانها و المقصود من التقدير هو التحديد العملي و العيني الخارجي لا التقدير الذهني كما يقيد المهندس حدود البناية المقصودة في ذهنه قبل تجسيده و إلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله تعالى :[إنا كل شيء خلقناه بقدر ]القمر 49 و بقوله تعالى [قد جعل الله لكل شيء قدراً]الطلاق 3
يعرّف المعجم الفلسفي تأليف الدكتور جميل صليبا القضاء و القدر بقوله أن القدر في اللغة القضاء و الحكم و مبلغ الشيء و الطاقة و القوة و يطلق على ما يحكم به الله تعالى من القضاء على عباده و على تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها.
و فرقوا بين القضاء و القدر فقالوا القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحدا بعد واحد خروجا مطابقا للقضاء، و القضاء وجود الممكنات في العلم الإلهي مجتمعة فيكون القدر وجودها متفرقة في الأعيان و الخارج بعد حصول شرائطها .
و يعرف الجرجاني القضاء بأنه الحكم الكلي على أعيان الموجودات بأحوالها من الأزل إلى الأبد مثل الحكم بأن كل نفس ذائقة الموت و القدر هو تفصيل هذا الحكم بتعيين الأسباب و تخصيص إيجاد الأعيان بأوقات و أزمان بحسب قابلياتها و إستعداداتها المقتضية للوقوع منها و تعليق كل حال من أحوالها بزمان معين و سبب مخصوص مثل الحكم بموت زيد في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني .
ثم يقول صاحب كتاب المعجم الفلسفي بأن القدر يطلق على إسناد أفعال العباد إلى قدرتهم كالمعتزلة لأنهم يقولون إن كل عبد خالق لأفعاله و قد يطلق القدر أيضا على القدرة الخفية التي تسيّر موجودات هذا العالم وفق نظام محتوم و يتعذر على الإنسان أن يخالف أسبابه و يجتنب نتائجه و قد يطلق القدر على المصير و هو مجموع الأحداث الضرورية و الجائزة التي تتألف منها حياة الفرد من جهة ما هي ناشئة عن قوى خارجية مستقلة عن إرادته.
أما بعض المثقفين الغربيين فيعتقدون بأن الإعتقاد بالقضاء و القدر من عوامل الجمود و الركود ، فهو سبب لتأخر الإنسان عن الحياة و مسيرة الكمال و ذلك لأنهم غير عارفين للمعنى الحقيقي للقضاء و القدر و من هؤلاء المخطئين جان بول سارتر إذ قال بما أني أعتقد بالحرية فلا يمكنني أن أعتقد بالله لأنه لو إعتقدت بالله وجب عليّ قبول قضاءه و قدره و إذا قبلت قضاءه و قدره عليّ أن أغض النظر عن الحرية و لأني أحب الحرية فلا أستطيع أن أؤمن بالله !
لكن القرآن الكريم يرد هذه النظرية و يعدل في رؤيا هؤلاء القوم الذين أخطئوا في فهم معنى القضاء و القدر بقوله عزوجل [ إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفوراً] الدهر3
و قال صاحب كتاب شرح التجريد بأن القضاء له ثلاثة معاني : الأول بمعنى الخلق لقوله تعالى [ فقضاهن سبع سنوات ] و الثاني بمعنى الحكم لقوله تعالى [ فقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه] و الثالث بمعنى الإخبار :[ و قضينا في الأرض ] أي بينا لهم أما المعنى الأول و الثاني فليس محلاً لبحثنا هنا فالقضاء بمعنى الإخبار و الإعلام و إن جميع الحوادث واقعة بقضائه و إنه عالم بها و إنه أخبر بها ملائكته فهذا المعنى لا دخل له بمحل البحث و أما القدر فله ثلاث معان أيضاً الأول الخلق لقوله تعالى [ و قدر فيها ] الثاني الكتابة و الثالث البيان و الإخبار لقوله تعالى [ إلا إمرأته قدرناها من العابرين ] أما المعنى الأول فإذا أخذنا به هنا سوف يستلزم الجبر و الثاني ليس محلا لكلامنا فيتعين الثالث.
و قال العلامة الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني في كتابه الكلم الطيب ص 203 عندما سُئل عن القضاء و القدر و الجبر و التفويض و أنه أي إرتباط بينهما و بين الإختيار أو الأمر بين الأمرين فقال (ره) : إن مسألة القضاء و القدر في الحقيقة و عند التأمل راجعة إلى كيفية الإيجاد و تحقيق الإرادة التكوينية الإلهية و ما جرى في عالم الأزل الذي لا تبديل و لا تغيير فيه و قد ورد عن أئمتنا (ع) أن البحث في هذه الأمور ممنوع لقوله (ع) سر الله فلا تكشفوه … فهو باب مغلق لا يسع العقول الوصول إليه و لما كان متعسراً بل متعذرا منع أهل البيت الخوض فيه لقصور إدراك العقول عن الوصول إلى ذلك منعاً إرشاديا ً، و أما مسألة الجبر و الإختيار فالمعروف عن مذهب الإمامية إنكار الجبر و التفويض، و أوضح دليل هو الوجدان الحاكم بفطرته .
و قالوا أن القضاء في اللغة هو الحكم و في الإصطلاح هو الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات و قالوا بأن القضاء بمعنى الأداء و المفاجآت و الموت .كتاب الدستور المجلد3
و القدر في اللغة بمعنى المقدار و القياس و التدبير و في إصطلاح الفلاسفة هو تعلق الإرادة الذاتية الإلهية بأشياء خاصة و قال صدر المتألهين: [ القدر عبارة عن ثبوت صور جميع الموجودات في عالم النفس على الوجه الجزئي مطابقة لما في موادها الخارجية الشخصية] مبدأ و معاد صدرا ص 92 و أسفار المجلد 3 ص 62
أما الروايات الواردة في مسألة القضاء و القدر :
- ما رواه الطبرسي عليه الرحمة عن أبي حمزة الثمالي أنه قال : قال أبو جعفر عليه السلام للحسن البصري[إياك أن تقول بالتفويض فإن الله عزوجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهناً منه و ضعفاً و لا أجبرهم على معاصيه ظلماً. بحار الأنوار المجلد 5ص17
- ما رواه الطبرسي أيضا عن هشام بن الحكم ، قال [ سأل الزنديق أنا عبدالله عليه السلام ، فقال : أخبرني عن الله عزوجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين و كان على ذلك قادراً؟ فقال عليه السلام؟ لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ، لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة و لا نار، و لكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته و نهاهم عن معصيته و إحتج عليهم برسله و قطع عذرهم بكتبه ، ليكونوا هم الذين يطيعون و يعصون و يستوجبون بطاعتهم له الثواب و بمعصيتهم إياه العقاب ، قال : فالعمل الصالح من العبد هو فعله و العمل الشر العبد يفعله و الله عنه نهاه، قال : أليس فعله بالالة التي ركبها فيه ؟ قال : نعم و لكن بالالة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه. قال فإلى العبد من الأمر شيء ؟ قال : ما نهاه الله عن شيء إلا و قد علم أنه يطيق تركه ، و لا أمره بشيء إلا و قد علم أنه يستطيع فعله ، لأنه ليس من صفته الجور و العبث و الظلم و تكليف العباد ما لا يطيقون]بحار الأنوار جلد 5 ص 17
- ما رواه في البحار عن أمير المؤمنين عليه السلام حين ساله عباية الأسدي عن الإستطاعة أنه قال عليه السلام في جوابه : [ تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت الأسدي فقال له : قل يا عباية ، قال : و ما أقول ؟ قال : إن قلت تملكها مع الله قتلتك و إن قلت تملكها من دون الله قتلتك قال و ما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملكك إياها كان ذلك من عطائه ، و إن سلبكها كان ذلك من بلائه و هو المالك لما ملكك و المالك لما عليه أقدرك أما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حيث يقولون لا حول و لا قوة إلا بالله ؟ فقال الرجل ، و ما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله و لا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله قال فوثب الرجل و قبل يديه و رجليه]البحار المجلد5 صفحة25
- و منها ما رواه عن موسى بن جعفر (ع) قال : [إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون فأمرهم و نهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به و ما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه و لا يكونون آخذين و لا تاركين إلا بإذنه و ما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته بل إختبرهم بالبلوى كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
- و منها ما رواه في الخصال و غيره عن الحسين بن علي عليهما السلام قال سمعت أبي علي بن أبي طالب (ع) يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال فرائض و فضائل و معاصي ، فأما الفرائض فبأمر الله تعالى و برضى الله و بقضائه و تقديره و مشيئته و علمه و أما الفضائل فليست بأمر الله و لكن برضى الله و بقضاء الله و بقدر الله و بعلم الله و بمشيئة الله و أما المعاصي فليست بأمر الله و لكن بقضاء الله و بقدر الله و بمشيئة الله و بعلمه ثم يعاقب عليهما ]البحار المجلد5 ص29
- عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه مر بجماعة بالكوفة و هم يختصمون بالقدر فقال لمتكلمهم [ أبالله تستطيع أم مع الله أم من دون الله تستطيع ؟ فلم يدر ما يرد عليه ، فقال أمير المؤمنين (ع) : إن زعمت أنك بالله تستطيع فليس إليك من الامر شيء و إن زعمت إنك مع الله تستطيع فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه ، و إن زعمت أنك من دون الله تستطيع فقد إدعيت الربوبية من دون الله تعالى فقال يا أمير المؤمنين ، لا ، بل بالله أستطيع فقال أما إنك لو قلت غير هذا لضربت عنقك ]البحار المجلد 5 صفحة 39
- و منها عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال : [ لا يكون شيء في السموات و الأرض إلا بسبعة بقضاء قدر و إرادة و مشيئة و كتاب و أجل و إذن فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عزوجل]البحار المجلد 5 ص 39
- و منها ما رواه في التوحيد [ جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، فقال : طريق مظلم فلا تسلكه ، قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ، قال : سر الله فلا تتكلفه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : فقال أمير المؤمنين (ع) أما إذا أبيت فإني سائلك ، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله ؟ قال : فقال له الرجل : بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد فقال أمير المؤمنين (ع) : قوموا فسلموا على أخيكم ، فقد أسلم و قد كان كافراً]البحار المجلد 5
——————————————–
0 تعليق