إلى احبتي 2
والحديث في هذا المقال عن المد الشيوعي والقومي في ايران والعراق
ودعت أيام الطفولة في الابتدائية بما يحلم به الطفل من حياة حينما يشعر بجديد امر قد يعطيه عنوانا يظن انه يفتح عليه آفاقا جديدة حيث انه اصبح يعيش مرحلة المتوسطة في مدرسة يجتمع فيها طلاب الثانوية ايضا و قد طرقت هناك مسامعي نبرة قوم وجدتهم يتحدثون بحماس عن المساواة وحقوق العمال و البؤساء والمحرومين وفي نفس الوقت هم ينقدون بشدة حياة الترف والنعيم التي يعيشها اصحاب القصور و وجدت هناك بعض من كنت اعرفهم في الابتدائية يتكلم ايضا بنفس هذه النبرات وما مرت الايام والليالي حتى عرفت أن هؤلاء القوم هم من انصار التيار الشيوعي او هم من المنظمين في نفس هذه الاحزاب على اختلاف مسالكهم حيث كانت الساحة آنذاك يحكمها المد الشيوعي ثم يتلوه في المكانة قوة المد القومي الفارسي على اختلاف تياراته و قد كان البعض منها يناصر الدولة حيث كان يرى ان الملك رجلا قوميا يدعوا الى إعادة تراث الأمجاد كوروش وداريوش ويحلم بالامبراطية الساسانية وكان من القوميين من يناهض ويعارض الحكم و إن جمعت هؤلاء جميعا روح العنصرية والقومية الفارسية إلا أنهم كانوا يختلفون بتبع الغايات والمشارب وكان البعض من هؤلاء لا يرى نفسه قوميا او عنصريا حيث أنه يرى ذلك منافيا لروح التعايش مع بقية القوميات و ربما اعطى ما هو عليه من النزعة القومية عنوان الوطنية لتكون اكثر تأثيرا و كسبا للآخرين و إن كان هناك من دفعت به روح الوطنية الى آفاق اوسع مما كان عليه هؤلاء من هذه المزالق و كان النظام آنذاك يحاول كسب الساحة بأنه من به وحدة البلاد من التمزق وأنه من سيعيد الى الايرانيين حضارة الماضين حيث كان الملك يعيش خيلاء العظمة وآماني إعادة الامبراطورية التي كانت على عهد اسلافه كوروش وداريوش وكان يحاول جاهدا اشعار المجتمع بأنه يعيش احزان سقوط الامبراطورية الساسانية على أيدي العرب و قد راح هذا الضخ الاعلامي في عهد كل من رضا خان و ولده محمد رضا ليدفع بكثير من الناس الى الحقد على العرب وقد اكتوى الكثير من عرب إقليم (الأحواز_الاهواز) بنيران هذا الحقد حيث كانت معالم هذا الاندفاع القومي طافحة على كثير من مواطن الحياة في المدارس والجامعات بل وفي الاسواق والشوارع وكان ذلك من دواعي مزيد الظلم على ابناء البلاد في عهد النظام البهلوي وكان بعض من يرى نفسه معتدلا يقول مخاطبا للعرب في البلاد انتم لستم عربا فلا تتأثروا من بعض ما تشاهدون من ممارسات او سخرية بالنسبة الى العرب لأنكم عرب بالمجاورة للعراق اي انتم للمجاورة تتكلمون العربية وإلا فانتم منا ونحن منكم.
وما مرت الايام والليالي إلا و أخذ المد الإسلامي يطغى على الساحة في المدارس والجامعات حتى اصبح اقوى من كل من المد القومي و الشيوعي.
و لا أنسى أني ذكرت يوما من الأيام حينما كانت صيحات كل من الشيوعيين والقوميين تتعالى أصواتها في المدارس وغيرها للمرحوم الوالد فقال لي اتظن أن ما نعيشه اليوم جديد على الساحة الايرانية فقد جاء رضا خان قبل ذلك بعنصرية فارسية يعجز عن بيانها اللسان كما وأنه قد تعالت صيحات الشيوعيين على عهد الدكتور مصدق حينما وجدوا لأنفسهم متنفسا وقد ارتكبوا الكثير من المجازر في عبادان و غيرها من المدن حتى كنا ونحن في بيوتنا نخاف على انفسنا منهم لأنه كان يكفي ان يقول قائل منهم إن فلانا ضد العمال والطبقة الكادحة فتأتيه الأفواج من كل جانب ومكان وهي قد حكمت عليه بالموت ويا بني قد عشنا نظائر ذلك في العراق في كل من العهد الملكي وبعد ذلك ثم ذكر لي قصة حينما كان طالبا في الحوزة في النجف الأشرف فقال خرجت يوما من البيت صباحا وانا ابن الثانية او الثالثة عشر اريد الذهاب الى الدرس فوجدت الشرطة قد شدت شابين على حمارين وهي تضرب عليهما بكل شدة والناس تنظر ولا احد يتكلم فاستغربت من هذا المشهد ثم لما تكررت المشاهد سمعت الناس يقولون ان هؤلاء الذين يضربون هم قوم إذا سمعوا بفقير او ارملة او محتاج بكوا عليه رقة فكان ذلك غريبا من القول فكيف يضرب قوم لوجود هذه الخصال ثم سمعنا بعد فترة من الزمن ان هؤلاء حزب يسمى بحزب الدمعة لقبوا بذلك لرقة قلوبهم ثم من بعد سنين من الزمن عرفنا ان حزب الدمعة هو الحزب الشيوعي في العراق .
ثم قال لي هكذا هم الناس يا بني فلا تستغرب من ساحة تتبدل فقد شاهدنا تبدل الساحات من شيوعية الى قومية ومن قومية الى بعثية و اسمع مني ما اروي لك من الأحداث فقد مرت إيران يوما من الأيام و هي تعيش تقديسا للسيد الكاشاني فكان ما يقوله هو الحق وما يرفضه هو الباطل و الناس نفس الناس يا بني حينما خذلوه و راحوا ليقدسوا في يوم آخر الدكتور مصدّق فأصبحت ايران من شمالها الى جنوبها تهتز شوارعها بالهتافات المؤيدة للرجل و هي تضج قائلة إما الموت او مصدّق و كان من احتمل فيه الناس ترددا فيما يقوله الدكتور مصدق يعتبر خائنا وكان كل من يشهد ويسمع ما يجري في ايران من تأييد لمصدق يجزم بأن رجوع الملك الفار أمر مستحيل و إذ بيوم واحد حينما عملت السياسة ما تريده جاؤوا بالسيد زاهدي وهو احد كبار رجالات النظام البهلوي فراحت لتتحرك الجماهير في طهران و توجهت نحو بيت الدكتور مصدق و اصبح الكلام عن الدكتور مصدّق بعد يوم من أحاديث الغابرين حيث أنك أصبحت لم تجد من يؤيد الدكتور مصدّق إلا نوادر من الناس وهم يسعون للحصول على مبررات لأنفسهم بأنهم كانوا في تأييدهم له خاطئين , نعم يوجد قلائل من الناس هم أصحاب المباديء الذين لا يتغيرون بتغير الأيام.
ثم قال لي يا بني في أيام قوة الدكتور مصدق كنت يوما من الأيام في طهران وقد ذهبت الى مسجد كبير قد أقيمت فيه فاتحة على روح احد علماء طهران وكان المسجد غاسا بالناس و إذ يدخل السيد الكاشاني ليشارك في الفاتحة وهو ذلك الرجل الذي كانت تقدسه ايران بالامس القريب فشاهدته بنفسي وهو يدخل المسجد يريد لنفسه مكانا ليجلس فيه فلم يقم له أحد من الناس و لا من رجال الدين الذين كانوا بالأمس يتمنون القرب منه فأعرضوا عنه جميعا فبقي الرجل متحيرا لا يدري أين يجلس و قد شاهدت في وجهه ملامح الندم من مجيئه الى المجلس فأشرت إليه تفضل سيدنا هاهنا فشكرني الرجل وجلس الى جنبي ولما قام عاتبني بعض رجال الدين أنه لماذا دعوته للجلوس الى جنبنا.
أجل هكذا هم أغلب الناس يا أحبتي متزلفين متملقين يوما و ناسين حتى الخلق الكريم في يوم آخر فلا تغروا يا أحبتي بالمظاهر فالناس في جنبكم ان اقبلت عليكم الدنيا و يتناساكم القريب إن أدبرت عنكم فلم تجدوا حينها إلا الخُلّص وهم قلائل من الناس.
وهكذا لمست الدنيا يا أحبتي فإنه إذا لم يجد الناس لمن ينظرون إليه جانبا من جوانب الدنيا شهرة او جاها او مالا او مقاما فإنهم يعرضون عنه ولا تُقدر للإنسان في مثل هذه الظروف العصيبة ما قد تكون له من خلق او علم او دين و أنتم قد لمستم ذلك أيضا فيما عشناه من حياة حينما بلغتم سني الرشد والتمييز.
وقد قال لي الوالد في يوم من الأيام يا بني إعلم إن شعوبنا في الغالب تعيش الإفراط او التفريط مدحا وذما والكثير منها لا تدري لماذا تؤيد او لماذا هي تخالف وهم إن أيدوا قدسوا وإن ذموا كفّروا ثم قال لي إنه قد بلغني يا بني إن يوما من الأيام في العهد الملكي في العراق خرجت مسيرة حاشدة تذم وتشتم رئيس الوزراء آنذاك وهو السيد نوري السعيد وهي تقول (نوري سعيد القندرة و صالح جبر قيطانها) فجائت أم صباح وهي مضطربة الى زوجها قائلة أما تسمع يا نوري ما يقوله الناس في الشوارع فضحك نوري السعيد وقال هدئي من روعك فهكذا هم الناس فإنتظري الأيام فستجدين غير ذلك و إذ بها تسمع بعد أيام وبغداد تهتز بالهتافات (نوري سعيد شدة ورد وصالح جبر ريحانه) فجاء نوري سعيد وقال لزوجته ألم أقل لك أن الناس هم هكذا و إذ بالناس يا بني في يوم آخر يرضون لأنفسهم مالا يرضاه كل عاقل ذي خلق كريم حينما راح ليسحب نوري السعيد و الكثير من رجالات العهد الملكي في الشوارع والناس تفخر أنها تمثل بأجسادهم.
وهكذا وجدت الناس أنا يا أحبتي في إيران تقدس يوما قوما وفي يوم آخر تسحبهم في الشوارع حينما حدثت الثورة وقُتل الكثيرمن الناس في شوارع ايران و قد وجدت كيف رضي الايرانيون بمحاكمات صورية لكل من إتُهم و قد كانت الواحدة منها لم تتجاوز بضع دقائق ويؤسفني أن أقول ونحن من هذا الشعب إن الروح الدموية طاغية في مجتمعاتنا فأبطال الامس لشعوبنا هم خونة اليوم بمنظار الشعب نفسه حينما راحت الشعوب لتنفخ في حكامها حتى إذا ما استبدوا وعاشوا جنون العظمة تبرأت منهم ونسيت أنه ما حكم هؤلاء عقودا من الزمن وما تجاوزوا الحدود و الموازين إلا بي وبك و بالفلاح والكاسب والتاجر والجندي ونسيت الشعوب أيضا (وما ظلمناهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون) كما وأنها نسيت قول رسول الله (ص) (كيفما تكونوا يولى عليكم) وقد قال لي أبي يوما من الأيام تذكر مني ما أقول لك يا بني وأنت في مقتبل العمر فإن الأيام قد تتغير فسترى من تقدسه الشعوب اليوم في ايران او العراق كما قدست من ذي قبل حينما اعتبرت بعض الماضين ابطالا ثم انزلتهم الى مستوى الخيانة والسحب في الشوارع فإن هذه الشعوب قد تصنع مرة ثانية ما صنعه المتقدمون مالم تتغير حضارة الحماس إلى حضارة التعقل و الإلتزام بموازين الشرع.
أجل هكذا وجدت الدنيا يا أحبتي و بالأخص في بلادنا الإسلامية فإنه لما سقط النظام البهلوي تبرأ منه كل أحد حتى من كان بالأمس القريب يقدسه سواء في ذلك من كان من عامة الناس او السياسيين بل و من كان من رجال الدين الذين وصل ببعضهم الحال أن يكتبوا قصائد يمتدحون بها النظام والملك وقد وجدتهم بعد ذلك أشد منا معارضة للنظام تسابقا للنيل منه وتوجيه الاتهامات إليه و بالأمس كنا حينما نظهر الخلاف يسخرون منا.
فإبتعدوا يا أحبتني عن روح التقديس و زنوا الرجال بموازين العقل والشرع ولا تفرطوا في المقال حتى في عدوكم وعيشوا سلام الشرع بعظيم عفوه ورحمته فإن رسول الله (ص) قال (إياكم والمُثلة و لو بالكلب العقور) فتخلقوا بأخلاق صاحب الرسالة عفوا وصفحا و إجعلوا فتح مكة على يده منهاجا للخُلق الكريم وكذلك ما كان من علي (ع) في فتحه للبصرة حينما عفى عن الجميع ولم يسلب مالا لأحد فإن من عاش الخُلق الرسالي إبتعد عن روح الأحقاد وتصفية الحسابات و وجد في العفو لذة تفوق سفك الدماء و سلب الأموال والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
0 تعليق