شيخنا الأجل كان لدي استفسار وهو هل مستويات العقول لدى البشر مختلفة و ان كانت مختلفة كيف جعل الله جميع الناس متساوين في التكليف الشرعي و كيف يعامل الله الناس يوم القيامة فهل على مستويات عقولهم ان كانت مختلفة ام انه يتعامل مع كلهم على نفس المستوى ولكم كل الشكر؟
الجواب:
بعد التحية والسلام ايها الاخ الكريم ان من الواضح الذي لا ريب فيه ان الناس كما هم مختلفون في اجسامهم و الوانهم و اخلاقهم و صفاتهم كذلك هم مختلفون في مراتب عقولهم وان اشتركوا جميعا في اصل الانسانية الجامعة بين اشرف الكائنات محمد (ص) و بين اشقاها كما و أن العالم مختلف من حيث المراتب من عالم النور الأعلى الى عالم الملائكة والبرزخ وعالم الشهادة من سماواته و ارضينه و ان اختلاف العوالم قربا و بعدا من الحق بحسب سلسلتي قوس النزول و الصعود أمر عائد الى امر الله تعالى الأزلي و قضائه و قدره و مجاري فيضه الذي هو فوق مدارج العقول فلا أحد يدري لما جعل البعض ممن خلق انسانا و آخرين ملائكة او خلقا آخر مما نعلم او لا نعلم و لما خص البعض بالنبوة و عظيم المنزلة و جعل البعض في غاية البلاهة والغباوة فضلا عن المجانين و ممن يموت قبل سنين الرشد والعقل و كون الناس يختلفون في مراتب ادراكهم كما تقدم أمر ملموس محسوس لا يتحتاج الى اقامة دليل و برهان و قد أرشدت الى ذلك العديد من الروايات ومنها على سبيل المثال ما ورد بما مضمونه عن علي عليه السلام ان رسول الله (ص) ما خاطب احدا قط بكنه عقله ,كما ورد ايضا خاطبوا الناس على قدر عقولهم و ان لا تكشف الاسرار الا لأهلها لأن بعض العقول قد تضيق و تكشف الاسرار او تصاب عند السماع بها بالإنحراف لعدم الإستيعاب وقد تكفر ايضا.
وقد رفع الله تعالى التكليف عن المجنون لعدم العقل و عن الصبي لعدم الكمال من حيث اصل الطبيعة الإنسانية و إلا فبعض الصبيان قد يكون اعقل من كثير من البالغين بل و ربما كان البعض منهم من الأنبياء و المرسلين و عليه فلا مانع من ان يكون الصبي العاقل مكلفا الا ان يرفع الله التكليف عنه بلطفه رحمة بحاله لان الأحكام تدور مدار العقل و عليه فلا مانع من توجيهها على الصبي العاقل و ان كانت بحسب المستفاد منها لعموم الدليل لا تشمل الصبي لانها تتوجه على الطبيعة لا الفرد.
و إن من منحه تعالى من العقل قممه العوالي كأن نفترضها مائة درجة كان مخاطبا يوم القيامة على قدر ما يدرك و يعقل و كذا يكون محلا للخطاب من أعطي التسعين درجة او الخمسين او العشرة ومن المستحيل ان يسأل من اعطي من العقل خمسين درجة بسؤال من اعطي منه الواحد و الخمسين وان خفف تعالى عن كل واحد بما هو عليه من العقل لأن الانسان في الغالب لا يستخدم عقله بتمامه و كماله لإنشغاله بكثير من متاهات الدنيا فيكون هذا التخفيف لواسع الرحمة و اللطف الإلهي و ان استحق السؤال و المؤاخذة بحسب العدل لكن الله تعالى ارحم من ان يؤاخذ عباده بعدله ماداموا محلا لواسع رحمته الا الذين يعرضون انفسهم لسخطه فيقدمون عليه معاجزين له جاهدين جبابرة مجرمين و لذا امرنا ان نقول رسام الشرع في دعائنا :(اللهم عاملنا بعفوك ورحمتك ولطفك ولا تعملنا بعدلك يا كريم), فإنا لا طاقة لنا بعدله فضلا عن سخطه و انقامه الذي لا تقوم لها السموات والأرضين.
لكن يجب على الإنسان ان يلتفت إلى نكتة مهمة ودقيقة في المقام وهي ان الثواب على قدر المعرفة و أبعاد المعرفة لا حد ولاحصر لها كمعرفة مدارج التوحيد وكذا بقية المواطن من العرفان من النبوة والإمامة وسائر المعارف الإسلامية كالعدل والقضاء والقدر و الحق والباطل وفهم أبعاد الكتاب المجيد المعبر عنه بالسبعة والسبعين بطنا وفهم السنة الشريفة وشهودها في سيرة المعصومين عليهم السلام حتى يعرف المؤمن بواسطتها بمنهجها التطبيقي مواطن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على صعيد الشريعة لا على صعيد العبادات فقط و يعرف مواطن الصلح والحرب وكيفية التعامل مع الظالمين حتى لا يخدع بواسع أطر التقية فيلحق بها الدين كما راح ليجعلها البعض ذريعة للتخلص من كل أعباء و أثقال الشريعة جهلا او خداعا للنفس او من باب كلمة حق يراد بها باطل.
فمن عرف هذه المواطن من كتاب الله تعالى و سنه نبيه (ص) و سيرة المعصومين و علم انه لا تنال الا بأمرين خلوص النية و بعد المعرفة علم ان الجهاد في سبيل الله تعالى للوصول اليها من أصعب الصعاب المحتاج الى طهارة نفس لأن الكتاب لا يمسه الا المطهرون ولا يوفق للعمل به وبشرع الله الا المجاهدون في سبيله الذين قال تعالى في حقهم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
كما و أني احب التنبيه على امر وهو ان الشريعة هي شريعة الحياة وليست شريعة العبادات فقط فلا يكون الانسان متسرعا الا بالعمل بها لا بتجزئتها و الأخذ بأحكامها العبادية و هجر بقية مواطنها اضف الى ذلك ان الأطر العبادية لها من العباد مالا يحصى فصلاة أمثالي من القاصرين المقصرين لو جمعت من يوم التكليف الى يوم الوفاة لا تقاس بجزء من ركعتين يقوم بهما الأولياء من عباد الله المقربين لأن المدار ليس على الفاظ تبدأ بتكبيرة و تنتهي بتسليمة في صلاة بل تدور مدار مكبر جعل بتكبيره بعد معرفة الله تعالى على قدر سعة وجوده وعقله كل شيء وراء ظهره من الكون متوجها لسلطان السموات و الأرضين يعيش وجد العاشقين و الا كانت الصلاة بعد رحمة الله مسقطة للتكليف فضلا عن بقية ما تحمل الصلاة من المعارف الأخرى بعد تكبيرها.
فإذا وان جمعتنا جوامع الأطر اي الهيكلية الظاهرية للتكاليف كهيكلية الصلاة والحج مثلا لكن يدور الأمر حتى في مثل هذه التكاليف مدار الطاهرة والعلم وخلوص النية فصلاة مصلي قد تخرق الحجب النورانية و صلاة من آخر راح ليتذكر فيها المصلي ما كان ناسيا من شؤون دنياه و لربما كان متلفتا فيها الى كل شيء سوى الله تعالى ومعاني الصلاة فهكذا تكون المراتب العبادية بينها مابين السموات والأرضين و ان اشتركت في مظاهر صورها وكذا الأمر في بقية الأفعال كمن زار الحسين عليه السلام عارفا بحقه او صلى على النبي و آله كذلك او دفع درهما بعد المعرفة و خلوص النية فخاتم تنزل فيه آية كالخاتم الذي تصدق به علي عليه السلام و ضربة لعمر بن ود يقال في حقها انها تعادل عمل الثقلين ومن الواضح ان ذلك لا لمجرد الإقدام على الموت والا فكم من جاهل يقدم على الموت ظانا نفسه من المقربين و الشهداء كما نشاهد في كثير من الإنتحاريين و كذا بناء مسجد للرياء قد يدخل النيران و للجهل قد لا يثاب عليه و بناء مسجد لشق صفوف المسلمين يكون من مصاديق مسجد ضرار الذي يجب ان يهدم و يحرق وان السير في مواطن تحقيق الحق بعد المعرفة من أصعب الأمور حتى قال علي عليه السلام لا يوحشنك طريق الحق لقلة سالكيه .
فالأعمال اذن تقيم بمقياسين :صدق النية و بعد المعرفة وكل ينال منها بمقدار عقله.
وبعد هذه المقدمة نقول إن التساوي في التكاليف المتوجه على عموم العقلاء ذكرا و أنثى إنما هي بحسب أطر التكاليف و الأجزاء و الشرائط ككون الصلاة مثلا واجبة على كل بالغ عاقل و لكن ليس هناك من تساو في مقام القيام بالتكاليف من حيث صدق النية و بعد المعرفة و مدارج العقول كما و أن التكاليف بنفسها تحمل أعماقا لا يدرك مداها إلا ذو حظ عظيم و كل إنسان يسأل يوم الحساب طبقا لما آتاه الله تعالى من مقام و منزلة فالعظماء يسألون عن دقائق خواطر النفوس و لا يصل أمر الواحد منهم أن يفترض في حقه ترك واجب أو اقدام على محرم أو ترك معقول أو مخالفة لفطرة لأنهم موازين العقل و الفطرة و لا يعقل في حقهم و بواطن نفوسهم تحقق صراع بين الحق و الباطل لأنهم مظاهر الحق و ميزان العدل و إن كان البعض قد يسأل عن ترك الأولى أو عن بعض ظرائف تزاحم القربات.
و أما امثالي من عبيد العصا الذين يعيشون صراع الحق و الباطل في باطن نفوسهم فإنهم على اختلاف مراتب ادراكهم كل يثاب و يعاقب ايضا على قدر عقله و معرفته و صدق نيته فصلاة ركعتين مثلا لو قام بهما عشر رجال قد يكون لكل واحد أجر و كذا في الإقدام على شرب الخمر قد يكون الجزاء يوم القيامة مختلفا و إن كانت الحدود و التعزيرات في دار الدنيا متساوية لأن الأحكام لابد و أن تكون عامة جارية بحسب الطبيعة الإنسانية و لا يعلم بواطن النفوس إلا الله تعالى و لا يعاقب على الضمائر إلا هو و إن أطلع بعض خلقه على بعض البواطن فهم ما كانوا أيضا يعاملون الناس في دار الدنيا على ضمائرهم.
و بالجملة الشرع ذو أبعاد و المكلفون أيضا بمراتبهم المختلفة علما و عملا و عقلا و يكون الثواب و العقاب بالنسبة إليهم كلا على قدر ما منحه الله تعالى من إدراك و سعة وجود و الله تعالى هو العالم بحقائق الأمور وفقنا الله و إياكم لمعرفة شرعه إنه ولي التوفيق و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته مع الإعتذار من التأخير في الجواب.
0 تعليق