السلام عليكم شيخنا الكريم ورحمة الله وبركاته:
قرأت في موقعكم في كتاب تحف العقول كلاما عن الإمام الصادق عليه السلام فلم أعرف معناه بالكامل فالرجاء إذا أمكنم شرح كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: إذا أضيف البلاء إلى البلاء كان من البلاء عافية ، كيف اذا أضيف البلاء إلى البلاء كانت هناك عافية وشكرا جزيلا لكم وفقكم الله تعالى لكل خير
الجواب:
نبدأ بالأحاديث تيمنا فقد قال : أبو عبد الله عليه السلام : (كان علي عليه السلام يقول إن البلاء أسرع الى شيعتنا من السيل الى قرار الوادي) للإشارة الى أن البلايا تصب على العبد المؤمن من كل ناحية و تسرع إليه على حسب مراتب الإيمان حتى يتم الإختبار بالنسبة الى كل نفس بما يناسبها .
وعن أبي الحسن عليه السلام قال : (المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : (إن لله عبادا في الأرض من خالص عباده ليس ينزل من السماء تحفة للدنيا إلا صرفها عنهم الى غيرهم ولا ينزل من السماء بلاء للآخرة إلا صرفه إليهم و هم شيعة علي و أهل بيته.
وعن أبي عبد الله عليه السلام أيضا : ( أن لله في خلقه عبادا ما من بلية تنزل من السماء ولا تقتير من رزق إلا صرفه إليهم ولا عافية ولا سعة في رزق إلا صرفه عنهم ولو أن نورهم قُسِّم بن أهل الأرض جميعا لإكتفوا به).
وعن أبي عبد الله أيضا : ( إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
وورد أنه جاء رجل للإمام الباقر عليه السلام فقال له والله إني أحبكم أهل البيت فقال له عليه السلام : (إتخذ البلاء جلبابا فوالله إنه لأسرع إلينا و إلى شيعتنا من السيل في الوادي).
وعن أبي عبد الله أيضا : (إنما يبتلي الله تبارك و تعالى المؤمنين من عباده على قدر منازلهم عنده).
والبلاء هو الإمتحان و الإختبار الإلهي الذي يصبه تعالى صبّا على عباده المؤمنين على إختلاف مراتبهم و ذلك لأنه لما كانت الغاية من الحياة الدنيا هي الإختبار في دار الإختيار وكان الإختبار توأما بحكم العقل مع بُعد المعرفة و صدق النية لأنه لابد و أن يكون البلاء نازلا على قدر عظيم صدق النية و رفيع مقام المعرفة فكلما تزداد القاعدة الإيمانية صلابة محلاّة بأنوار المعرفة يزداد البلاء أي يزداد صعوبة الإمتحان فمن امتحن في الصف الأول و نجح كان مؤهلا للصف الثاني الذي هو أصعب من الأول و من تجاوز الإبتدائية كانت المتوسطة و الثانوية أشد إختبارا و كذا في مراتب البحوث العليا و هكذا سير الله تعالى في عباده و بالأخص المخلصين منهم و قد قال تعالى : (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون….) ولذا كان الأنبياء أشد بلاءا من غيرهم و بعد هذه المقدمة نقول :
يحتمل في هذا الحديث الشريف وهو : (إذا أضيف البلاء الى البلاء كان من البلاء عافية) ما يلي و الله العالم :
1- إضافة البلاء الى البلاء لعله يشار به إلى ما رود بما مضمونه عن لسان المعصومين عليهم السلام : (يا أزمة اشتبكي تفرجي ) أي عند تمامية البلاء يأتي الفرج و بعد العسر يكون اليسر و العافية أي اذا أضيف البلاء الى البلاء كانت العافية أي الفرج بعد تمام البلاء.
2- أو لعله للإشارة الى أن الذين يتوجه عليهم البلاء الإلهي من المؤمنين و المؤمنات يكون إزدياد البلاء سببا لإزدياد الدرجات و جزيل الثواب و تمحيص الذنوب فالبلاء من العافية للمؤمن لو أمعن النظر في ذلك لأنه لولا الإختبار و شدة البلاء لما وصل المتقون الى رفيع منازلهم و لما ميّز الصلحاء عن الطلحاء فهو أدات المعافاة لأهل الإيمان.
3- ولعله للإشارة الى أن البلاء يقطع أولياء الله عن النظر الى الدنيا و زخارفها رحمة بحال عباده المخلصين و لذا كان الفقر و الحرمان و عدم الأمان و عدم الصحة و السجون و غير ذلك من لوازم حياة أولياء الله تعالى فيكون إزدياد البلاء سببا للجوء الى الله و الإبتعاد الأكثر فالأكثر عن أوهام عالم الدنيا و وساوس الشياطين من شياطين الإنس و الجن حتى لا تحلو الدنيا بأعين المؤمنين لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة و قد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام : ( اللهم اخرج حب الدنيا من قلبي) فالبلاء إذا سبب للعافية أي للإبتعاد عن مغريات الدنيا و التوجة الى الله فكل بلاء يكون من الألطاف الإلهية لانه يكون مدعاة للقرب الإلهي و الإبتعاد عن أوهام عالم الدنيا فيكون من اللطف الإلهي أي مما يقّرب الى الطاعات و يبعّد عن المعاصي كما جعل الله بعثة الأنبياء و جعل الأوصياء بعد العقل لطفا بحال العباد فيكون البلاء إذا عافية يتعافى به المؤمن المبتلى ليخرج حب الدنيا من قلبه و يتوجه الى رب العالمين.
4- ولعل المراد لوجود كلمة من ( كان من البلاء عافية ) بعد كون كلمة من تبعيضية يكون المراد إن بعض البلايا لو تنزل على العبد المؤمن قبل غيرها لا تكون له من المنبهات و لا تكون سببا لرفع الغشاوات لكن لعلم الله تعالى بنفوس المؤمنين يورد البلاء على حسب كل نفس فهذا إذا توجه عليه البلاء كالفقر ثم توجه عليه المرض مثلا فتح بصيرته الى جديد من مسالك الإيمان و آخر إذا ابتلاه الله بالفقر ثم دفعه الى تحصيل العلم لإنقطاع بقية سبل الدنيا عنه التي قد تأخذ الإنسان الى الانشغال بها يكون اختباره بالعلم حين الفقر سببا لتوغل و التعمق في المعارف الإلهية و لذا نجد أكثر العلماء الربانيين فقراء حتى لا يكون العلم مدعاة للكبر و الغرور كما يصاب بذلك الكثير من العلماء حتى و لو كان العلم علما الهيا فإذا لعله يراد في هذا الحديث الإشارة الى أن البلاء إذا أضيف الى البلاء ما يدفع الى العافية اي الى معافاة النفس من الغفلة و التوجه الى أعماق المعارف فإذا يكون من البلاء حينما يضاف الى البلاء المعين لعلم الله بنفوس عباده المؤمنين و كيفية علاج نفوسهم ليخلصوا الى الله ما يستوجب صحوة للنفوس للتوجة الى المسالك الربوبية.
5- و لعل المراد لكلمة من التبعيضية أيضا الإشارة الى أن من البلاء لإختلاف نفوس الخلق فإن من البلاء ما يكون مدعاة الى العافية و ذلك لأن النفس المؤمنة الطاهرة إذا اضيف البلاء عليها بعد البلاء يكون سببا لصلابتها و عمق إيمانها و من النفوس إذا جاء البلاء بعد البلاء لضعف تلك النفوس يكون البلاء بعد البلاء مدعاة للخروج من الدين فكأن الإمام عليه السلام يقول إذا أضيف البلاء الى البلاء كان من البلاء عافية لبعض النفوس و هي النفوس المؤمنة لأنها تزداد إيمانا و ثباتا و إذا اضيف البلاء الى البلاء و هو الشق الثاني من الحديث المفهوم من نفس هذا الحديث فإن البلاء من البلاء يكون سببا للخروج من الدين لأن صاحبه يريد دينا لا يضر بالمصالح و الغايات الدنيوية إلا بقدر ككونه يضر بتلك المصالح بالمية عشرة أما لو وصلت التضحية الى اكثر من ذلك فهو لا يريد هكذا دينا فيكون بالنسبة اليه البلاء بعد البلاء مصيبة في دين و على هذا فيصبح المعنى لوجود كلمة من التبعيضية _التي تجعل الشيء مقسما كقولك بعض الناس مؤمنين الدال بمفهومه على أن بعض الناس ليسوا بمؤمنين_ و عليه فالمعنى إن من البلاء عافية و هو ما يبتلى به المؤمن و يبقى الشق الثاني للإشارة الى أن و من البلاء ما ليس بعافية و هو إذا توجه الى النفوس الضعيفة و الله سبحانه و تعالى في دار الدنيا يهدي من يشاء و يضل من يشاء فرب إختبار دعى الى صلابة الإيمان كما هو بالنسبة الى المؤمنين المتقين و رب اختبار دفع بصاحبة الى الضلال كما هو بالنسبة الى النفوس الضعيفة او الخبيثة.
6- أو أن الحديث أريد به إلفات نظر العبد المؤمن بأنه في محل الألطاف الإلهية مادامت تصب عليه البلايا و إلا لو كان هو ممن قد أعرض الله عنه لكان بعيدا عن الصعاب و لما اشتدت عليه الدنيا و إن كان شدة البلاء يعم البشرية لكن نوع البلايا تختلف فهناك منها ما قد يعم الصالح و الطالح كالفقر و المرض و هناك منها ما هو من نتائج سبل الإستقامة و السير على طريق الحق فالأمر بالمعروف يسوق العبد المؤمن الى بلايا لا يبتلى بها غيره من الذين لا دين عندهم و كذا مواجهة الظالمين تسوق الى بلايا خاصة بالمؤمنين و كذا صراحة اللهجة في مواطن الحق تسوق العبد المؤمن الى نوع اخر من البلايا حتى قال علي عليه السلام : (ما أبقى لي الحق من صديق) فلعله يريد أن يشير الإمام عليه السلام الى أن اضافة البلاء الى البلاء و بالأخص اذا كان من نمط البلايا التي هي من شأن المؤمنين كان ذلك من مؤشرات العافية أي ان المبتلى بهذه البلايا لولا أنه من المؤمنين لما تراكمت عليه البلايا و بالأخص إذا كانت بلايا سبل المتقين فيكون مثل هذا البلاء مما يعطي المؤمن طمأنينة بأنه ممن يسير في مسالك ربه فهو يعيش المعافاة و ليس ممن أعرض عنه الله سبحانه وتعالى .
و إن المتأمل في أحاديث أهل البيت عليهم السلام سيجد كلامهم نورا و النور لا حد له في درجاته و لذا لا تتوقف الإحتمالات على هذا الحد و ما بيناه إنما هو للإشارة الى وجود المزيد من المعاني في أحاديثهم عليهم السلام.
هدانا الله و إياكم الى التأمل في دقيق معاني الأحاديث و الكتاب المجيد الذي هو الأساس في كل شيء و السلام.
جزاكم الله كل خير على هذه التوصيات والاشارات النورانية , بارك الله فيكم نسألكم الدعاء